من المجازفة أن يكتب غير المتخصصين في موضوع ليس من اختصاصهم. أما وقد قادنا المتخصصون في الاقتصاد الرأسمالي، والقائمون عليه إلى الكارثة التي يُعاني منها آلاف الملايين من البشر، فربما بات من حق الذين يُعانون مما أصبحنا نعاني منه أن يُدلوا أحياناً برأيهم في ما يحدث لهم ولحياتهم. ربما أكثر القضايا إلحاحاً في المرحلة الحالية هي تلك المتعلقة بالأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم منذ أواخر سنة 2007. هذا المقال ليس سوى محاولة لاختراق الغيوم التي تُحيط بها، والتي ربما أُطلقت بعضها في الجو عن عمد خدمة لمصالح معينة لا تُريد للناس أن يُدركوا حقيقة ما يحدث لهم، وأسبابه، أو أن يدركوا أيضاً ما يُمكن أن يحدث للاقتصاد الذي يعيشون في كنفه حتى لا يتعاونوا بحثاً عن مخرج من المأزق الذي لا ينفك يقودهم إليه الاقتصاد الرأسمالي الذي حكم في الأرض منذ خمسمئة سنة. وذلك دون أن ننكر التقدم والنجاحات التي أحرزها، ولا أن نتغاضى عن عجزه في معالجة البؤس الذي يحيا في ظله أغلب سكان الأرض، عن إيقاف تفجر الأزمات المتكررة التي تهز كيانه والتي يدفع ثمنها آلاف الملايين من الرجال والنساء والأطفال. لا يمكن النظر إلى الأزمة التي تفجرت منذ ما يقرب من سنة ونصف بالعيون ذاتها التي شاهدت الأزمات التي حدثت في القرن التاسع عشر، بل وبعدها، والتي جنح أصحابها، وعلى الأخص المتخصصون في شؤونها نحو اعتبارها نتائج حتمية لا فكاك منها لما يُسمى بدورة الأعمال النابعة عن فوضى الإنتاج. تلك العيون لم تكن ترى، أو لم ُترد أن ترى الصراعات الاجتماعية كمنبع مهم للأزمات التي تفت في عضد النظام الرأسمالي. لكن الآن أصبحنا نُدرك أنه يُمكن للنظام السائد في عالمنا أن يقود إلي الأزمات بتصرفاته على المدى الطويل، أي أن تُؤدي استراتيجياته التي يرسمها عن قصد إلى حدوثها، كما يُمكن في الوقت نفسه إن أراد أن يُؤجل حدوثها، أو أن يُزيدها من حيث عمقها وتأثيرها المدمر. بالطبع لا يُمكن منع حدوثها أو إلغاؤها تماماً فهى جزء لا يتجزأ من طبيعة النظام الرأسمالي. مع ذلك يمكن الإسراع بها أو تأجيلها عن طريق السياسات والإجراءات الحكومية، بل ورغم الخطورة المرتبطة بها، يُمكن أيضاً استخدامها لتوجيه ضربات تُساعد على إبقاء النظام الرأسمالي حياً واستمراره، ضربات يُلجأ إليها كتجارب حدية عندما يشعر أنه قابل للانتهاء لأن هناك اعترافاً واسع النطاق بضرورة إجراء تغييرات جذرية وإلا ستكون الكارثة التي لا رجعة فيها. في مثل هذا المقال ربما من المفيد التعرض للجذور والمنابع الأساسية الطويلة المدى المُسببة للأزمات رغم الاختلافات القائمة بينها حسب المرحلة التي وقعت فيها. فرغم هذه الاختلافات تُوجد بينها خصائص متشابهة. في صدارة هذه الخصائص ينبغي اعتبار هذه الأزمات نتاج لتضخم في الإنتاج مصحوب بتقلص نسبي في الاستهلاك مما يُؤدي إلى هبوط في نسب الربح التي يجنيها الرأسماليون ويقودهم إلى التوقف عن ضخ استثمارات جديدة في الإنتاج، وإلى تقليص الائتمان المتاح للقطاع الإنتاجي في الاقتصاد. اختلال التوازن بين الإنتاج والاستهلاك يُؤدي إلى تراكم زائد عن الحد في السلع المتاحة للسوق، إلى ركود، أي إلى عجز الرأسماليين في العثور على فرص للإنتاج تُوفر لهم نسب الربح التي يُريدونها، وهي نسب كما نعلم عالية للغاية. يُطلق على هذه الظاهرة أحياناً «مشكلة الجني» (Realization Problem)، وتتلخص هذه المشكلة في تحقيق وفرة زائدة عن الحد المطلوب في السلع مصحوبة بحصار يفرضه الرأسماليون على حدوث زيادة في الأجور مما يُقلص القوة الشرائية المتاحة في السوق. إن سعي الرأسمالية لتحقيق الأرباح عن طريق تخفيض الأجور والاستغناء عن أكبر قدر ممكن من القوى العاملة هو الذي يُقوض ربحية المشاريع، فالهدف من إنتاج السلع هو أن تُباع لأن البيع هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الربح. لذلك إذا لم يتم بيعها بالقدر المطلوب لابد أن تخفض الأرباح التي يجنيها الرأسماليون من استثماراتهم في الإنتاج. يترتب على هذا جنوح الرأسمالية إلى البحث عن مصادر جديدة للربح خارج نطاق الإنتاج، خارج ما يُسمى بالاقتصاد الحقيقي. في هذا السبيل تُستخدم رءوس الأموال التي تراكمت لديها من قطاعات الإنتاج في عمليات آخرى لها طابع مالي محض، أي بمعنى آخر توظيف المال في عمليات مالية غير إنتاجية لجني الأرباح. هذه العمليات المالية تشمل مختلف أنواع الإقراض بفوائد مثل القروض المعطاة لمختلف البلاد وعلى الأخص بلاد الجنوب في آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، وبعض البلاد العربية، أو قروض تُعطى للأفراد لشراء الأرض وبناء المنازل، أو قروض للتجار، أو نظام كروت الائتمان التي تدفع بأصحابها إلى التوسع في الشراء وتراكم ديون لا بد من تسديدها، أو التوسع في نظم التقسيط، والمضاربة على الأسهم، والسندات والعملات، والأوراق المالية عموماً التي تتأرجح قيمتها في البورصة فتعلو وتنخفض فاتحة الأبواب لجني أرباح ضخمة، واتباع مختلف الأساليب للتلاعب في أسعارها بهدف جني هذه الأرباح. كل هذه العمليات المالية لا علاقة لها بالإنتاج، بالاقتصاد وبالثروة الحقيقية. إنها مجرد أوراق بالونات قابلة للانتفاخ وقابلة للانفجار. هكذا يتم تحويل جزء كبير بل وأساسي من اقتصاد العالم والبلاد إلى اقتصاد مالي، وتحويل الرأسمالية إلى رأسمالية مالية تعتمد على أشكال مختلفة من المضاربة ولا تصب جهودها في الإنتاج أو في تغذية الثروة الحقيقية للاقتصاد. هذا بينما الإنتاج هو المصدر الأساسي بل الوحيد للقيمة، للفائض الذي ينتج عنه الربح الذي تسعى إلى تحقيقه الرأسمالية. أما ما عدا هذا فهو ربح ومال مصطنع يتأرجح على شفا الهاوية. وتدل الإحصائيات أنه قبل انفجار الأزمة الحالية عند تحليل الاستثمارات السنوية الجديدة في السنوات السابقة كانت رءوس الأموال الموظَّفة في الإنتاج تتأرجح حول نسبة خمسة في المئة من إجماليها بينما وصلت تلك الموظَّفة في القطاع المالي إلى نسبة تأرجحت حول خمسة وتسعين في المئة من إجمالي هذه الاستثمارات. * كاتب مصري.