قرر رئيس وزراء لبنان، سعد الحريري، أن يضع علاقته مع سورية في صدارة أولوياته حتى وإن كلفته الرأي العام الذي رافقه في مسيرة المليون شخص وأصبح يُعرف بجمهور 14 آذار (مارس). فعل ذلك بقوله هذا الأسبوع إنه تسرّع في اتهام سورية باغتيال والده رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، وقال: «نحن في مكان ما ارتكبنا أخطاء. ففي مرحلة ما اتهمنا سورية باغتيال الرئيس الشهيد. وهذا كان اتهاماً سياسياً». هذا الكلام أدهش الكثيرين وأثار غضباً في بعض الأوساط، لا سيما تلك التي استذكرت كامل مرحلة الاغتيالات السياسية في لبنان واستهجنت استخدام تعبير «الاتهام السياسي». البعض اعتبر كلام الحريري تبرئة لسورية وهناك من اعتبره في الوقت ذاته تصعيداً مع «حزب الله» الذي تحدث عن «قرار ظني» سيصدر عن المحكمة الدولية المعنية باغتيال رفيق الحريري يتهم الحزب بالتورط في الجريمة. ومن المفيد التدقيق في ما يجوز أن يكون في ذهن سعد الحريري عندما اختار أن يبعث مثل هذه الرسالة. ومن المفيد أيضاً بحث المسألة من الناحية الإقليمية والدولية للتعرف الى التداعيات المحتملة. وربما كان في ذهن الرئيس الحريري في حديثه الذي قرر أن يدلي به في خطوة مدروسة أن يسلخ «الاتهام القانوني» لمساعدة المحكمة على الاستقلال كما لمساعدة البلد على الاستقرار. المطلعون على فكر سعد الحريري يقولون إنه أراد تحرير القضاء من السياسة كي تسير المحكمة الدولية الى الأمام بغض النظر عمّن تُبرئ وعمّن تدين. لربما برّأ سعد الحريري سورية تبرئة سياسية بكلامه عن أخطاء «الاتهام السياسي»، وهو الذي سبق أن تكلم بلغة تبرئة «حزب الله» عندما قال إنه لا يصدق أن يكون الحزب تورط في اغتيال والده. إنما واقع الأمر، ومهما كان اقتناع سعد الحريري ابناً أو رئيساً للحكومة، إن التبرئة أو الإدانة هي من صلاحيات المحكمة الدولية حصراً حيث القضاء وحده له صلاحية التبرئة أو الإدانة. وسعد الحريري كان يعرف ذلك تماماً عندما فصل الاتهام السياسي عن الاتهام القضائي. كيفية تعبيره عن هذا الفصل وعن فك الارتباط بين السياسي والقضائي لم تكن فقط ركيكة، بل مؤلمة لأن حديثه لم يوضح هذه الناحية. ولذلك اعتبر الكثيرون كلامه استهانة بالتحقيق الدولي الذي دلّ الى سورية منذ البداية في تقاريره العديدة ثم لمّح الى «حزب الله» في عهد سيرج براميرتز، من جهة. واعتبره آخرون إهانة الى حدث وطني شارك فيه مئات الألوف لا يجوز تحجيمه الى «اتهام سياسي» ووصفه بالخطأ والاعتذار عنه، من جهة ثانية. قد يكون سعد الحريري مضطراً أن يضع الرأي العام وقاعدته الشعبية في المرتبة الثانية لأن إيلاء الأولوية لعلاقة وطيدة مع سورية يفرض عليه التملص من قاعدته الشعبية وما مثّلته. قد يكون تصرّف عن قوة فتجرأ على الاعتذار لسورية، ورد على تصعيد «حزب الله» الدائم ضده مهما فعل، وقرر أن يعمل حصراً كرئيس وزراء وليس كابن شهيد أو كفريق من 14 آذار المبعثرة. وقد يكون تصرف عن ضُعف فأُجبِر على الاعتذار وسار في خطوات رُسِمت له. والواضح أنه اتخذ قرار توطيد البنية التحتية لعلاقة جيدة بينه كرئيس وزراء ورجل دولة وبين الرئيس السوري بشار الأسد. فهو يرى فوائد جمّة في استقرار العلاقة بين الرجلين ولربما يعتقد أن ذلك هو مفتاح استقرار العلاقة بين البلدين. ما ينظر إليه الحريري هو الخريطة الإقليمية لتطور العلاقات، لا سيما السعودية – السورية، ويرى أن مصر لا بد ستلتحق بالمحور الجديد الذي يُنشأ، وهو يريد أن يكون جزءاً منه كرجل دولة. القمة السعودية – السورية – اللبنانية الشهر الماضي كانت بالنسبة الى الحريري نقلة نوعية عندما اصطحب الملك عبدالله بن عبدالعزيز الرئيس السوري بشار الأسد في زيارة لبيروت للاجتماع بأركان الدولة اللبنانية، وليس بالأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله. في السابق كان الرئيس بشار الأسد يستقبل السيد حسن نصرالله سوية مع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في دمشق. كان ذلك في الماضي القريب. أما اليوم، فيرى الحريري أنه بنى البنية التحتية الضرورية مع سورية كي تكون العلاقة بين البلدين على صعيد الحكومتين والدولتين. وهذا يشكل علاقة مؤسساتية جديدة من نوعها ما بعد إقامة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين المجاورين للمرة الأولى في تاريخهما. بكلام آخر، في الماضي القريب كانت الدولة اللبنانية مُستبعَدَة عن العلاقة السورية مع لبنان، إذ أنها كانت مقننة مع «حزب الله» ومع الفصائل الفلسطينية المسلحة في لبنان والتي تتخذ لنفسها مقراً في دمشق. أما اليوم، فلم يعد السيد حسن نصرالله وحده عنوان العلاقة السورية مع لبنان. لربما وراء هذا التطور رسالة مدروسة لكل من بشار الأسد وسعد الحريري. فاختيار الأسد للحريري قد يكون جزءاً من استراتيجية إضعاف «حزب الله» لغايات في ذهن القيادة السورية التي يعتقد بعض عناصر «حزب الله» أنها ورّطت الحزب عمداً في مخالب التحقيق الدولي في اغتيال الحريري لتنجو هي من المحاسبة في المحكمة الدولية. واختيار الحريري للأسد شريكاً قد يكون بدوره جزءاً من التصدي ل «حزب الله» بعدما فشلت كل مساعي الحريري لمعالجة الخلافات وفتح صفحة التفاهم والتي تفاقمت في مواجهة كلامية بعد كلام سعد الحريري عن بيروت بلا سلاح. «حزب الله» يريد الاحتفاظ بسلاحه وهو بذلك يمنع الدولة من التصرف كدولة ويهدد تكراراً بإسقاط الحكومة، إذا شاء، كونه جزءاً من الحكومة سياسياً من جهة ومستقلاً عن لبنان «سلاحياً» باحتفاظه بسلاحه. لربما الخلل في فكرة سعد الحريري القائمة على أن العلاقة مع سورية باتت مقنّنة في اتجاه العلاقة بين الدولتين والحكومتين هو أن القيادة السورية ما زالت ترعى وتموّل وتسلّح الفصائل الفلسطينية المسلحة في لبنان، وهي أيضاً طريق إمدادات السلاح المتطور الى «حزب الله». قد يتفهم رئيس وزراء لبنان هذا التناقض باعتبار أن سورية مهددة من إسرائيل وأن أدوات الدفاع عن نفسها وسيادتها تشمل الأدوات المتاحة لها في لبنان. إنما هذا لا ينفي الخلل في معادلة تأسيس علاقة جديدة بين البلدين والحكومتين، طالما أن دولة تستخدم دولة جارة لها كعمق استراتيجي يلبي مصالحها على حساب استقرار ومصالح الدولة المجاورة. الأرجح أن سعد الحريري لا يتوهم أن تكون دمشق في صدد حرق أوراق مهمة لها في لبنان أو أن تكون في صدد سلخ نفسها عن إيران. فتلك العلاقة استراتيجية. ودمشق لا تزعم أياً من الأمرين. دمشق تعمل لمصلحتها القومية وهذا من حقها. قد ترى أن مصلحتها تقتضي توزيع الأدوار وخلق المشاكل في لبنان لتكون في يديها أدوات «حلها» والتموضع مجدداً بما يسمح لها بالنفوذ الصارم في بلد «الشقيقة» الصغيرة – لبنان. وقد يكون في ذهن دمشق حقاً نقل العلاقة إلى مرتبة جديدة. المهم أن لا تقوم الدولة اللبنانية بالاستغناء عن دورها كدولة، لا سيما بعدما أسفرت مسيرة المليون الى انطلاقة جديدة للبنان نحو علاقات إيجابية مع جارته سورية. بالتأكيد، أن العلاقة بين لبنان وسورية يجب أن تكون مميزة لأن سورية هي الجار العربي المباشر ولأن الوضع الإقليمي يتطلب البناء على طي صفحة الخلاف السعودي – السوري وبدء مرحلة جديدة. إنما تعزيز هذه العلاقة يجب أن يكون بإجراءات من الطرفين. نعم، سورية هي أقوى وأكبر ولها نفوذ واسع في مستقبل استقرار أو انهيار لبنان. لكن لبنان ما زال عنواناً أساسياً في إعادة تأهيل سورية إقليمياً وعلى الساحة الدولية. إنفاق هذه الأوراق قبل الأوان ليس حكيماً، لا سيما إذا ترك الانطباع بالضعف والاضطرار وإذا خلّف انطباعاً آخر نحو «حزب الله» له نبرة التصعيد عبر البوابة السورية. «حزب الله» طوّق نفسه بنفسه في حديثه عن القرار الظني الذي يتهمه قبل أن يصدر أي قرار ظني عن المحكمة الدولية. العلاقة بين سورية و «حزب الله» تبدو متوترة قليلاً أو تشوبها الشكوك المتبادلة. تعامل «حزب الله» الأخير مع التطورات يترك الانطباع بأنه متوتر يرتكب أخطاء تكتيكية تلو الأخرى. إيران في وهن. إنما على رغم كل ذلك، وحتى وإن كان «حزب الله» في غير وارد التصعيد المؤذي عملياً على الساحة، هناك انطباع بأن رئاسة الوزراء تلعب ورقة العلاقة بين سورية و «حزب الله» مجازفة. ما لا يمكن التشكيك فيه هو أن سعد الحريري يريد الخير للعلاقة اللبنانية – السورية، ويتمنى التهدئة الدائمة على الساحة اللبنانية، ويرجو أكثر ما يرجو الاستقرار لبلده وسط علاقات إقليمية إيجابية. إنه في موقع لا يُحسَد عليه إن أصاب أو أخطأ. فهو يضع نفسه في الاختبار كرئيس للوزراء ويضمد جرحه بصفته أكثر المعنيين باغتيال والده رفيق الحريري فيما يدخل دهاليز السياسات العربية والإقليمية تحت مجهر مراقبة محلية ودولية.