يبدو الخامس عشر من أيار (مايو) 1948 اليوم مناسبة لرؤية الحالة الفلسطينية في تشرذمها وشبه ضياعها شكلا من استعادة مشهدها الأول غداة «الخروج الكبير»، والذي افتتح حالة الضياع بعيدا عن الوطن، وهو ضياع انتقل من فقدان الأرض بما هي مدن وقرى وحاضنة اجتماعية، إلى فقدان اللّحمة الاجتماعية كمساحة تتشكّل منها التعبيرات السياسية ومن ضمنها القيادة السياسية القادرة على قيادة الشعب نحو طموحاته وآماله الوطنية وأهمّها – منذ تلك الأيام وإلى اليوم – إنجاز الاستقلال وإقامة دولة خاصة أسوة بشعوب وأمم الأرض كلّها. يأتي الخامس عشر من أيار هذه المرّة في ظل تناحر فلسطيني غير مسبوق يهدّد بتدمير المنجز الوطني شبه الوحيد والمتمثّل في اعتراف المحيط العربي ومن بعده الدولي بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي «الممثّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني»، على ما يحمله هذا الاعتراف من إشارات تتجاوز المنظمة كمؤسسة سياسية إلى الاعتراف بالفلسطينيين كشعب أولا، ثم الاعتراف بحقّهم بوصفهم شعبا، في تجسيد وجودهم الوطني في الشكلين الطبيعيين أي الأرض الخاصة، والدولة التي تمارس السيادة على هذه الأرض كما هو الحال الطبيعي لكل الأمم والشعوب، وأساسا كما يفترض المنطق وتقرّ الشرائع الدولية. التشرذم الفلسطيني السائد هذه الأيام يشبه «مسيرة معاكسة» لتلك التي سارها الفلسطينيون بمختلف انتماءاتهم واتجاهاتهم السياسية كي يخرجوا من حالة التبدّد والتشظّي الوطني التي ترتّبت على نزوحهم عن وطنهم، حتى أمكنهم بلورة سعيهم السياسي والتنظيمي وتكريس الاعتراف بهم وهو اعتراف – وإن لم ينجح إلى اللّحظة في تحقيق أهدافهم الوطنية – إلا أنه لا يزال قادرا على منع وإحباط أية تسويات سياسية أو صفقات يمكن أن تعقدها أية جهات عربية أو دولية من وراء ظهرهم، أو في الحد الأدنى تجعل تلك الصفقات غير شرعية ولا تحمل توقيعا فلسطينيا يمكن البناء عليه لتصفية الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة، أو أية مراحل قادمة. المسألة هنا تتجاوز بالتأكيد منطق المماحكات الشائعة والمتداولة في الأوساط الفلسطينية اليوم، والتي ينطلق أصحابها من نيّة التقليل من شأن التمثيل الفلسطيني باعتباره من وجهة نظرهم جاء كنوع من التخلّي الرسمي العربي عن «قضية العرب الأولى» لصالح جهة فلسطينية يرشّحها الطرف الرسمي العربي لتقوم هي بالتنازل عن الحق الفلسطيني. منطق كهذا يبدو في تقديرنا عاجزا عن تجاوز حالته وحقيقته كوسيلة مماحكة ليس إلا، ففي الأحوال كلّها ومهما تكن الحالة العربية متماسكة سياسيا أو ضعيفة وفاقدة الإرادة، يظل مطلوبا أن يمتلك الفلسطينيون كشعب وحدتهم السياسية وإرادة التعبير عن هذه الوحدة في إطار تمثيلي – سياسي يقدر أن يقدّمهم في العالم كشعب له هويته التي لا يختلف أبناؤه عليها وإن اختلفوا بعد ذلك سياسيا وحزبيا كما يفترض العقل والمنطق. لقد وجد الفلسطينيون أنفسهم بعد الخامس عشر من أيار 1948 مجرّد مجموعات بشرية متناثرة جغرافيا، وتفتقد لأي إطار جامع سياسيا وتمثيليا، ومن يتذكر تلك الأيام يتذكّر كيف سطع نجم «الإتحاد العام لطلبة فلسطين» في سنوات خمسينات وستينات القرن الفائت لسبب بسيط ولكنه بالغ الأهمية، وهو أنه كان أول هيئة تمثيلية فلسطينية موحدة جمعت الطلاب الجامعيين الفلسطينيين في العالم كله، وشكلت بالنسبة لهم مرجعية نقابية أولا، ثم سياسية بعد ذلك، بل إن انتخاب رئيس الإتحاد لمنصب «نائب رئيس اتحاد الطلاب العالمي» كان في تلك الأيام انجازا ذا أهميّة كبرى بسبب ما حمله من دلالات سياسية، وأيضا بسبب ما شكّله من بدايات اعتراف عالمي بالشعب الفلسطيني، وهي حالة جعلت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يشير في أكثر من مناسبة، وعبر أكثر من لقاء صحافي إلى أهمية تأسيس «رابطة الطلاب الفلسطينيين» في مصر أولا، ثم الروابط الأخرى التي تبعتها في بلدان عربية وأوروبية، ثم أخيرا توحيد كل تلك الرّوابط في «الاتحاد العام لطلبة فلسطين» والذي أصبح مقرّه القاهرة واكتسب في ظل بدايات تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية مكانته البارزة تمثيليا وسياسيا. هي حالة تتجاوز أهميتها دور هذه الجهة السياسية أو تلك لأنها تتعلّق بما هو دائم وثابت، فالقيادات التي يمكن أن تتسلّم دفة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تتغير بينما يظل جوهر المنظمة التمثيلي وتعبيرها عن وحدة الشعب الذي يتحوّل في غيابها إلى مجرّد جزر لتجمعات بشرية متباعدة ولا ترتبط إلا بوشائج عاطفية لا يعترف بها العالم ولا يقيم لها وزنا على الصعيد السياسي. نقول ذلك ونحن نستمع إلى جدالات كثيرة تحاول القفز عن هذا كله وتحويله إلى مماحكات بين الأطراف السياسية المتنازعة بوصفه صراعا على أشكال مؤسسيّة لا أهمية لها، بل يمكن تبديلها بخفّة وبساطة، وكأن القضية كلّها تتوقف على الرّغبات الحزبية والسياسية لهذا الطرف الفلسطيني أو ذاك. هي مرة أخرى دروس الخامس عشر من أيار : ليست النكبة في ضياع الأرض وحسب، ولكن أيضا في أن ضياع الأرض جرّ معه ضياع الوحدة الشعبية والهوية المستقلة والجهة التمثيلية. * كاتب فلسطيني.