تستقبل مصر اليوم بعثة من صندوق النقد الدولي لبدء مفاوضات رسمية في شأن برنامج تمويلي من الصندوق بقيمة 12 بليون دولار ضمن حزمة قيمتها الإجمالية 21 بليوناً، ستحصل عليها الحكومة تبعاً لإجراءات ستكون محل اتفاق بين الحكومة والصندوق. وتعيش البلاد أزمة اقتصادية خانقة شغلت الحكومة والرأي العام الأسبوع الماضي مع ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازية إلى مستويات غير مسبوقة، إذ كسر حاجز 13 جنيهاً، قبل أن يتراجع إلى ما دون 12.5 جنيه، علما بأن السعر الرسمي للدولار لم يتخط 9 جنيهات. وتعاني مصر موجات تضخمية متتابعة تخطت 12 في المئة على أساس سنوي، وفق تقرير للبنك المركزي صدر الشهر الماضي. ولم تؤت محاولات الدولة للجم الأسعار ثمارها في ظل انخفاض قيمة العملة المحلية، المتوقع أن يستمر بفعل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بحسب خبراء اقتصاديين. وتأتي تلك التطورات الاقتصادية السلبية وسط ارتفاع معدلات الفقر التي وصلت، حسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى نحو 28 في المئة من السكان لا يستطيعون تلبية حاجاتهم الأساسية، حتى من الغذاء، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة إلى نحو غير مسبوق. وظهر أن الحكومة مهدت للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي بحزمة من التشريعات التي تُلبي مطالب الصندوق منها، في ما يخص السياسيات الضريبية وتقليص الدعم والتوظيف الحكومي، ومن ضمن تلك الإجراءات قانون الخدمة المدنية الذي قبله البرلمان أخيراً، وهو معني، ضمن أمور أخرى، بتنظيم العلاقة بين الدولة ونحو 6 ملايين موظف في الجهاز الإداري. ويحدد القانون زيادة سنوية ثابتة بمعدل 7 في المئة على الأجر الوظيفي لكل موظف، إضافة إلى مشروع قانون الضريبة على القيمة المضافة الذي حذر خبراء من أنه سيؤدي إلى موجة تضخمية جديدة. وقال ل «الحياة» محمد مهدي (موظف في شركة تمتلك سلسلة متاجر لبيع السلع الغذائية) إن زيادة الأسعار أخيراً «لم تعد محتملة». وأضاف أن «المشكلة أن الجميع، حكومة وإعلاماً، يطلب منا أن نتحمل، وهم لا يشعرون أصلاً بالضغوط على عاتقنا... مستويات المعيشة انخفضت جداً. بتنا فقراء بعدما كنا نعتبر أنفسنا من الطبقة الوسطى». ورأى أن أي زيادة في الأسعار لا يمكن أن يتحملها الشارع في الفترة المقبلة، لأن الأسعار وصلت إلى الذروة. وقال إن «الأمر لا يتعلق بالسلع الترفيهية أو الكمالية التي لم يعد لها مكان في حياتنا أصلاً. المشكلة أننا لم نعد نستطيع شراء الغذاء، وحتى الرخيص منه. أسعار اللحوم في المجمعات الاستهلاكية تخطت 50 جنيهاً، ولم يعد بمقدورنا الاحتمال». وقالت ميرفت حسين، وهي موظفة في إدارة مالية تابعة لوزارة التربية والتعليم، إن قانون الخدمة المدنية الجديد سيزيد معاناة الموظفين. واعتبرت أن «التبجح وصل إلى حد عدم تنفيذ أحكام القضاء، فوزارة المال خصمت من حوافزنا قبل شهور مبلغاً قالت إننا لا نستحقه، وقمنا برفع دعوى قضائية أمام المحاكم وحصلنا على حكم بإعادة تلك المستحقات المالية، ومن التبجح أن وزارة المالية لم تُنفذ تلك الأحكام حتى الآن وترفض تنفيذها. تلك الأحكام حصل عليها مئات الموظفين في القاهرة فقط، ولا أحد يسمع شكوانا، والآن تم تثبيت العلاوة الاجتماعية عند حد 7 في المئة سنوياً، فهل يثبت ارتفاع الأسعار عند هذا الحد؟». وأضافت: «لم نعد نحتمل ارتفاع الأسعار، ولا بد للحكومة من أن تضع حداً لتلك المهزلة أو ترحل». لكن مع الخفض المتوقع لسعر العملة المحلية والرفع التدرجي لدعم الطاقة والكهرباء وتطبيق ضريبة القيمة المضافة، فإن الأسعار سترتفع حتماً، وهو ما تستعد الحكومة لمواجهته بالتوسع في برنامج الحماية والمساندة الاجتماعية المتكاملة. واجتمع الرئيس عبدالفتاح السيسي مع الحكومة قبل أيام. وقالت الرئاسة في بيان إن الاجتماع خلص إلى «أهمية مواصلة الحكومة تنفيذ برنامجها الإصلاحي بكل حسم وإصرار لمواجهة المشاكل الهيكلية التي عانى منها الاقتصاد المصري خلال السنوات الماضية». لكنه طلب «مراعاة محدودي الدخل عند تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، وضرورة تحقيق التوازن المطلوب بين الإجراءات الترشيدية للبرنامج الإصلاحي، والاحتواء الكامل لآثاره على محدودي الدخل، عبر التوسع في برنامج الحماية والمساندة الاجتماعية المتكاملة، مع الحفاظ على أسعار السلع الغذائية الرئيسة التي تهم محدودي الدخل». وتُراهن الحكومة على قدرتها على تثبيت أسعار السلع الغذائية الأساسية المستوردة، إذ يتم استيرادها بالسعر الرسمي للدولار، وكذلك على عدم تأثير برنامج الإصلاح الاقتصادي على الفقراء عبر برامج معاشات التكافل. لكن الخبير في الاقتصاد والإدارة الحكومية عبدالخالق فاروق، يؤكد أن برنامج الحكومة الاقتصادي سيزيد معاناة الفقراء. وقال ل «الحياة»: «أخطر ما يتعلق بموضوع الدخول في التفاوض للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ليس شروط أو أجندة الصندوق لتمويل البرنامج الاقتصادي، لأن ما يجري منذ 4 سنوات هو تطبيق حرفي لكل أجندة الصندوق في ما يتعلق بتخفيض الإنفاق وإلغاء ما يسمى دعم الطاقة، وتخفيض الوظائف الحكومية واستكمال برنامج الخصخصة والشروط العامة الخاصة بما يسمى تهيئة البيئة للاستثمار وخفض الضرائب على المستثمرين... كل تلك السياسات تطبقها الحكومة حرفياً، وهي أجندة الصندوق بالأساس، وبالتالي لا جديد في ما سيجري وما يتعلق بشروط التمويل». ورأى أن «الخطير في الأمر أن صندوق النقد الدولي بمجرد التوقيع على الاتفاق سيضع الاقتصاد المصري تحت وصايته المباشرة على مدى سنوات الاتفاق، ولن يصرف أي شريحة للقرض كل ثلاثة شهور إلا بعد مراجعة خبراء وموظفي الصندوق كل الإجراءات والسياسات والقرارات الحكومية تطبيقاً للبرنامج خلال فترة التمويل... الخطير في الاتفاق هو وضع الاقتصاد المصري مباشرة تحت وصاية الصندوق، أما بالنسبة إلى مستويات المعيشة فهي سيئة وتتجه إلى الأسوأ». واعتبر أن «السياسات الاقتصادية بعد الثورة هي سياسات إفقار، فتحْت شعار تشجيع الاستثمار والمستثمرين وحوافز الاستثمار، جرى نهب الاقتصاد المصري. هم يستخدمون الشعارات والسياسات نفسها لنظام الرئيس السابق حسني مبارك، ومن هنا نلحظ استمرار تدهور مستويات المعيشة». واستبعد فاروق قدرة الحكومة على لجم آثار البرنامج على الفقراء. وأوضح أن «العدالة الاجتماعية ليست معاش تكافل أو مبلغاً زهيداً يُدفع للفقراء، إنها سياسة متكاملة لا أرى أن الحكومة تتنباها أصلاً. معاش التضامن جزء تافه جداً من العدالة الاجتماعية التي لا تعرفها الحكومة ولا تمارسها». وأضاف أن «سياسات العدالة الاجتماعية تعني عودة الاعتبار إلى مجانية التعليم، وتوفير رعاية صحية متكاملة لكل المصريين وخصوصاً الفقراء، مجاناً وبلا إهانة، ووضع سياسات عادلة للضرائب، وسياسات عادلة للتشغيل والتوظيف، وسياسات عادلة للبيئة وللقضاء ووضع نظام عادل للأجور والرواتب... تلك السياسات كلها لا تتم، من يخططون ويديرون الاقتصاد لم يقرأوا أصلاً عن العدالة الاجتماعية ولا يشغلهم تطبيقها».