أسوأ ما يمكن أن يتوهمه شعب من الشعوب هو الوهم القائل (والقاتل): بما أن الديموقراطية أصبحت «موضة» عالمية، فإنها آتية إليه حتماً... هكذا ببساطة وسلاسة! هذا وهم خادع! لا تأتي الديموقراطية الى شعب من الشعوب على طبق من ذهب. فلا بد من «زرعها» و «استنباتها» في البيئة المجتمعية المحلية، ثم رعايتها وتعهدها بالسقي. إلى أن يشتد عودها وتصبح شجرة خضراء ويانعة. وعند بلوغ هذه المرحلة لا بد من تشذيب وتهذيب وري الشجرة لتبقى ولا تتعرض للذبول... ولا بد من أن تباشرها قوى المجتمع المدني المحلي المعني، ولا فائدة من الاعتماد على «الخارج». فقوى الخارج «تتأرجح» بين مبادئها الديموقراطية ومصالحها الخاصة ومواقفها تتغيّر بحسب هذا «التأرجح». أقرأ هذه الأيام تاريخ نمو وتطور الديموقراطية البريطانية، أعرق وأقدم ديموقراطيات العالم. وهي ديموقراطية علينا أن نتنبه أنها مورست داخل حدود بريطانيا فحسب، ولم يحرص عليها أصحابها في أرجاء الإمبراطورية الواسعة... التي لم تكن تغيب عنها الشمس... ولكنا لم نجد في أقطارها شروقاً لشمس الديموقراطية إلا بجهد شعوبها، ابتداء من حركة سعد زغلول في مصر، وحركة المهاتما غاندي في الهند، بين حركات أخرى... ومن قراءتي لتاريخ الديموقراطية البريطانية داخل بريطانيا أصاب بالذهول... كم كانت تحتاجه الديموقراطية من قرون حتى ترسخ وتتعزز! ومن حسن الحظ انه إذا كانت الديموقراطيات القديمة تحتاج إلى قرون كي تنمو، فإنها في أيامنا لا تستغني أقلها عن عقود لكي تنمو ويشتد عودها. وعندما توجهت كل من الولاياتالمتحدة وفرنسا إلى «النظام الديموقراطي» بعد «الثورة الأميركية»، و «الثورة الفرنسية»، كانت قوى المجتمع المدني في كلا البلدين نامية تماماً، ومستعدة لحمل العبء الديموقراطي، وكانت البُنية التحتية الإنمائية فيهما متنامية وناضجة، وكان التكوين السياسي لهما كدولتين قويتين، قد اكتمل وتم احترامه... وعودة إلى تاريخ نمو وتطور الديموقراطية البريطانية، التي شهدنا مؤخراً فيها عودة حزب المحافظين إلى استلام السلطة بعد تراجع قبضة العمال، نجد أن هذه الديموقراطية يمكن «التأريخ» لبدايتها مطلع القرن الثالث عشر الميلادي بإصدار الملك جون ل «الماغنا كارتا» – أي الميثاق الأعظم باللغة اللاتينية التي كانت سائدة في حينه – وذلك عام 1215 للميلاد ولم تكن «الماغنا كارتا» وثيقة ديموقراطية مكتملة، (وبريطانيا سارت على العُرف الدستوري، وليس لديها «دستور» كالدول الأخرى)، فقد كانت «الماغنا كارتا» تعاقداً سياسياً بين المؤسسة الملكية الحاكمة في بريطانيا وبين «البارونات» من ملاّك الإقطاعيات الزراعية حيث تعهد فيها الملك لأولئك بعدم زيادة الضرائب عليهم، إلا بعد موافقتهم إضافة إلى تأكيد تلك الوثيقة (التي يمكن قراءة نصها الكامل في موضعها الأبجدي من الموسوعة البريطانية) على مبدأ «حرية» الكنيسة واستقلالها وحرية التجار في التنقل واستيراد ما يريدون من بضائع حسب القوانين الجمركية المعتمدة. كانت «الماغنا كارتا» بداية... وبداية فقط. ويلمس المرء من قراءته للتاريخ السياسي البريطاني إن الوثيقة لم تحسم الكثير. فقد طرأ نزاع كبير وحروب أهلية خطيرة بين المؤسسة الرسمية والبرلمان مدعوماً من القوى المؤيدة له، وتم إرسال «قادة المتصارعين» من الجانبين إلى ساحات الإعدام – بطريقة غير ديموقراطية! – ثم دخل القائد العسكري كرومويل في المشهد السياسي وأوقف العملية الديموقراطية لسنوات، ومن بعده استمر الصراع والشد والجذب ... ولم يصل، مثلاً، حزب العمال، الذي يمثل القوى العاملة في بريطانيا إلى السلطة إلا عام 1924 عندما شكل الزعيم العمالي المنتصر رمزي ماكدونالد، في الانتخابات البرلمانية، الحكومة للمرة الأولى في تاريخ بريطانيا. وللمرة الأولى في تاريخها أيضاً، استطاعت المرأة البريطانية التصويت في الانتخابات العامة سنة 1928 وما زالت الديموقراطية البريطانية تنمو وتتطور! فهم ما زالوا «يتناقشون» هناك إن كان يجب انتخاب اعضاء «مجلس اللوردات»، أم تعيينهم بالوراثة؟! ثم أن النظام الديموقراطي ليس مثالياً ولا طوباوياً وليس آتياً من «جمهورية» أفلاطون. ولأحد أبرز زعماء العمل السياسي في بريطانيا، وهو ونستون تشرتشل، مقولة شهيرة عن الديموقراطية، وهي أنها ليست أفضل نظم الحكم لكنها أقلها سوءاً! فكل بديل حكم آخر يشمل من المساوئ أكثر مما تشمله الديموقراطية! وإذا كانت مجتمعات العالم الثالث تريد الديموقراطية فعليها أن توفر شروطها أولاً: 1- التأكّد من أن التنمية الاقتصادية، وإقامة ضروريات البُنية التحتية، وتنامي قوى المجتمع المدني قد بلغت درجةً من النضج تسمح بقيام نظام ديموقراطي، وهذا يدخل – مثلاً – في سر نجاح المشروع الديموقراطي الإصلاحي لملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، الذي تستعد بلاده لانتخابات الدورة البرلمانية الثالثة هذه الأيام، حيث نشهد ونكتب، إلى جانب الديموقراطيات الناجحة في عالم اليوم. والجدير أن هذا «الوعي» اقترب من أن يصبح «مسلمة» في المجتمع حيث كتب الكاتب البحريني القدير عبدالله المدني في روايته الجديدة «بولقلق» إشارة بهذا المعنى – نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص 90. 2- العمل على تقوية الدولة الحاضنة للديموقراطية. فلا يمكن للديموقراطية أن تنمو في دولة مضعضعة الأركان وما يحدث أمامنا في العراق يؤكد ذلك. و «الديمقراطيون» الذين يعملون على زعزعتها وإضعافها، يضعفون أهدافهم في الديموقراطية قبل كل شيء. وكان كاتب هذه السطور قد أشار إلى أهمية ذلك عندما أصدر كتابه (تكوين العرب السياسي) عام 1994، ص 191، مركز الدراسات الوحدة العربية، بيروت. وكان المفكر المغربي الدكتور عبدالله العروي يشير قبل ذلك في أبحاثه القيمة إلى هذه الحقيقة وضمن هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أهمية ظهور «القائد التاريخي» الحريص على تنمية الديموقراطية في وقتها المناسب. 3- في المسيرة الديموقراطية، وحيث أنها تطبق في واقع البشر وظروفهم، يمكن أن تحدث «تراجعات» و «انتكاسات». لكن هذا أدعى إلى الاستمرار فيها واستنقاذها من التراجع عنها. 4- لا بد من الحذر في مجتمعات كمجتمعاتنا العربية والإسلامية، فبعض القوى أو معظمها، التي يدعمها «الشارع» وتثير غرائزه بتأثير الغيبيات أو المحرمات أو الهزائم، يمكن أن تصل إلى السلطة وتقضي على الديموقراطية من الأساس! حدث هذا في روسيا بعد الثورة على القيصرية، حيث استمرت تجربة ليبرالية جديدة فيها لمدة تسعة أشهر فقط، قبل وصول البلاشفة إلى السلطة، أما المثال الألماني الهتلري عام 1933 حيث نال الحزب النازي أغلبية برلمانية، باسم الديموقراطية فإنه أشهر من أن يُعرّف. * كاتب من البحرين