تأخرت في الوصول الى أصيلة، المدينة والملتقى. لكن الوصول الى أصيلة بعد ثمانية وثلاثين عاماً على انطلاق الملتقى الذي أصبح في طليعة الملتقيات العربية، خير من عدم الوصول بتاتاً. بل إنني شعرت بشيء من الأسف جراء تأخري هذا، في زيارة هذه المدينة الجميلة وفي المشاركة في ملتقاها الثقافي الذي بات موعداً سنوياً ينتظره المفكرون والأدباء والرسامون، مغاربة وعرباً وأجانب. كنت كلما شاهدت صور أصيلة وجدرانها البيضاء واللوحات المرسومة عليها في وسط الأحياء الشعبية يخامرني شعور بأن هذه المدينة تتفرد عن سائر المدن التي قدّر لها أن تكون نموذجية وإنها لا تشبه سوى نفسها حتى ببحرها وشاطئها. لكنك عندما تزور أصيلة وتمشي في أحيائها وتتأمل جدرانها وجدارياتها عن قرب وتشاهد عماراتها البيضاء تدرك أن هذه المدينة لا يمكن استيعابها وفهمها من خلال الصور، ولا بد من زيارتها واقتفاء آثارها وتنشق هوائها وعيش حرها في الصيف تحت الشمس ونداوتها في الليل المقمر. هذه مدينة تحوي من الأسرار ما يجعلها عصية على الاستهلاك البصري العابر. وكم أصاب الكاتب الكونغولي تشيكايا اوتامسي الذي يعد واحداً من ابناء أصيلة عندما قال: «أحب أصيلة حباً يبلغ أقصى الشغف». ونظراً الى علاقته العميقة بها التي رسختها زياراته الدائمة لها أقام له الأمين العام لملتقى أصيلة الوزير والنائب السابق محمد بن عيسى حديقة جميلة تحمل اسمه ولوحة تعرف به وبأدبه. وهذه الحديقة أصلاً هي واحدة من حدائق عدة تحمل اسماء كبيرة من أمثال: محمود درويش، الطيب صالح عاشق أصيلة، وبلند الحيدري الشاعر الذي خصه الملتقى بجائزة تحمل اسمه للشعراء الشباب، والمفكر محمد عابد الجابري... وما أحلى التنزه بين هذه الحدائق في ساعات الغروب وفي الليل او عند الصباح. حدائق كبيرة او صغيرة يؤمها الناس العاديون لتمضية أوقات من الاستراحة تحت الشجر وفي ظلالها. أما رئيس السنغال والشاعر سنغور الذي زار أصيلةمرات فحملت أحدى ساحاتها اسمه مثلما حملت ساحة أخرى اسم ابن خلدون. إلا أن عمارات أخرى تضيف الى هندسة المدينة أبعاداً جمالية ومنها الجامع الكبير والسور وقصر الثقافة الذي يضم جداريات من الزليج المغربي البديع وقطعاً من الأثاث العريق. ليست هذه الحدائق وحدها متنفس الناس «الأصيليين» والزائرين الذين يملأون المدينة صيفاً، بل المدينة كلها بنيت لتكون متنفساً وسيعاً ورحب الأرجاء، من شاطئها الطويل الى أحيائها الداخلية الضيقة والمتداخلة بعضاً ببعض والملتفة حول نفسها وكذلك بساحاتها وسورها وأبراجها الأثرية وقصورها والآثار التي تدل على حضارات عبرت من هنا. وقد تكون أصيلةالمدينة شبه الوحيدة عربياً التي يتصالح فيها الناس العاديون على اختلاف مشاربهم وأشغالهم، مع الفن التشكيلي من خلال الجداريات الفنية المرسومة على الجدران الكلسية التي تحتل المدينة مانحة اياها أفقاً آخر. حيثما ارتفعت جدارية فنية ورسوم او منحوتات تبصر اناساً عاديين ينظرون اليها او يجلسون اسفلها ويلتقطون الصور امامها. انها جزء من مدينتهم ومن ثقافتهم اليومية. وقد لا يهمهم أن يستوعبوا كثيراً ما تحمل هذه الجداريات من دلالات ورموز، تكفيهم الألوان التي اعتادت عيونهم عليها، بين سماء وبحر وطبيعة خلابة. أما الجداريات المرسومة فهي تتبدل سنة تلو أخرى ولا يبقى منها سوى الصور التي تحفظها. لا تحصى أسماء المفكرين والكتاب والفنانين الذين زاروا أصيلة وشاركوا في ملتقاها ومنهم على سبيل المثل: السينمائي الايطالي ايتوري سكولا، الروائي الايطالي البرتو مورافيا، الروائي البرازيلي جورجي امادو، الطيب صالح، أدونيس، محمود درويش، عبدالوهاب البياتي، أميل حبيبي، بلند الحيدري، أمين معلوف، الطاهر بن جلون، أحمد عبدالمعطي حجازي، هشام شرابي، محمد اركون، جابر عصفور، الياس خوري وسواهم، علاوة على الكتّاب المغاربة. قضايا أفريقيا ما يسم ملتقى أصيلة فهو جمعه بين الفكر السياسي والأدب والشعر والفن في صيغة متوازنة. ولعل دورة هذه السنة، وهي الدورة الثامنة والثلاثون للملتقى، تعبر عن طبيعة الملتقى وتوجهاته، فهي تجمع بين هموم عدة، تتوزع بين حقول: السياسة والفكر والشعر والرواية والفن التشكيلي. وأولى الندوات بدت ترافق قمة الاتحاد الأفريقي التي عقدت في رواندا فعنوانها هو «الوحدة الترابية والأمن الوطني: أي مآل لأفريقيا؟» وشارك في أعمالها التي امتدت ثلاثة ايام خمسة وثلاثون باحثاً ومفكراً وسياسياً من العالم العربي وأفريقيا. اما القضية التي انطلقت منها الندوة فيمكن تلخيصها عبر هذه المعطيات: عقب الاستقلال، أدرك الزعماء الأفارقة خطر الحروب والنزاعات الحدودية التي قد تؤدي إلى بلقنة القارة الأفريقية وتفكيكها نظراً الى وجود كيانات قبلية أو عرقية متداخلة ومتشابكة على حدودها المشتركة. ومن أجل تجنُّب هذا الخطر، تبنّى زعماء الدول والحكومات المنضوية تحت «منظمة الوحدة الأفريقية» خلال القمة التي انعقدت في القاهرة في تموز (يوليو) 1963 قراراً يقضي بالحفاظ على الحدود القائمة بعد استقلال الدول، أي مبدأ «عدم المساس بالحدود». صحيح أن أفريقيا اليوم تعيش نهضة حقيقية على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية يعترف بها العالم ويشيد بها. ولكن للأسف، لم تسلم القارة من النزاعات الترابية. وكان أولها محاولة إنشاء دولة «بيافرا» الانفصالية في المنطقة الشرقية لنيجيريا ما أدى إلى قيام حرب حقيقية ما بين سنوات 1967- 1970، وتلتها في ما بعد نزاعات ترابية أخرى كتلك التي أدت إلى انفصال إريتريا عن إثيوبيا، أو جنوب السودان عن شماله. ومن هنا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: في الوقت الذي أصبح من الضروري تعميق «الاتحاد الأفريقي» في بعده الإقليمي أو شبه إقليمي من أجل تحقيق نهضة على المستوى الاقتصادي ذات أبعاد جيوسياسية في القارة، كيف يمكن تفادي استفحال بلقنة أفريقيا؟ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، علّمتنا تجاريب التاريخ أنه لا يمكننا بناء اقتصاد ناجع ومستدام إلا في إطار شبه إقليمي أو إقليمي موسع. ونذكر على سبيل المثال الاتحاد الأوروبي، اتحاد دول جنوب شرقي آسيا (آسيان)، والسوق المشتركة لأميركا الجنوبية (Mercosur)، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية وغيرها. فالتعاون والتكامل الاقتصادي يعتبران من أفضل العوامل المساعدة على استقرار الدول. وعلى طريق تشييد الكيان الأفريقي المقترن بنمو اقتصادي شامل ومستدام آخذاً في الاعتبار التحديات الجديدة بخصوص التغيُّرات المناخية، فإن كافة الدول الأفريقية مدعوّة للمشاركة في تحقيق نموها، وبخاصة النخب الأفريقية المثقفة والسياسية، وكل الفاعلين الإداريين من دون إهمال نشطاء المجتمع المدني. أما الندوة الثانية فدارت حول «الحكامة -أو الحوكمة- ومنظمات المجتمع المدني» وشارك فيها سبعة وثلاثون باحثاً عربياً ومغربياً خلال ثلاثة ايام. وانطلقت الندوة من نقاط رئيسة يمكن تلخيصها وفق الآتي: بدأ تداول مفهوم الحكامة منذ سبعينات القرن الماضي، من لدن سياسيين كانوا يعنون به، بالأساس، التفويت المضطرد لبعض صلاحيات القطاع العام للقطاع الخاص في تدبير المدينة. وقد استعمله البنك الدولي للمرة الأولى في 1990، في تقرير خاص حول إصلاح أنظمة التدبير في أفريقيا، ثم اتسعت دائرة استعماله بعد ذلك، لكي يتضمن معاني الشفافية في تداول المعلومات، والشراكة في القرار، والعقلانية في التدبير، إلى جانب السعي الى الاستثمار الأمثل للموارد البشرية، والمادية واللوجستية، والتنسيق في ما بينها، وتحقيق أعلى مردودية في الإنتاج بأقل كلفة ممكنة. تنطبق معايير الحكامة على مختلف قطاعات التدبير، سواء تعلق الأمر بالمؤسسات الحكومية او المقاولات أو منظمات المجتمع المدني. وقد ارتبطت بصورة متزايدة، في العقود الأخيرة، بمنظمات المجتمع المدني لأنها سعت الى اعتماد الحكامة كآلية لتمكينه من مراقبة المجتمع السياسي، إلى جانب المؤسسات الاقتصادية والتجارية والإدارية. في هذا السياق، تتعدد مقاربات الحكامة المعتمدة من لدن منظمات المجتمع المدني بتنوّع رسائلها وأهدافها. فالمراكز الفكرية تنكب على آلية وضع المعايير وملائمتها وتجديدها. أما جمعيات الترافع فتنطلق من هذه المعايير لقياس مدى احترامها من لدن المؤسسات المفتحَصة، والبناء عليها بهدف المساءلة والمحاسبة. وأخيراً تهتم المنظمات التي تعمل في مجال التربية المدنية، في شكل أكبر، بالتعريف بمضامين وآليات الحكامة من أجل التأسيس لمواطنة حية وفاعلة، ونشر الوعي بمروحة إجراءاتها. الدين والدولة في العالم العربي اما الندوة الثالثة فهي تُعنى بموضوع «النُّخب العربية والإسلامية: الدين والدولة»، في ظل الظروف التي تمرّ بها المجتمعات والكيانات السياسية على امتداد العالم العربي والإسلامي، لا سيما، خلال مرحلة ما بعد «الربيع العربي». هذا المصطلح أثار لغطاً كيبراً منذ أُطلق للمرة الأولى على موجة الانتفاضات على عدد من الأنظمة السياسية العربية في مستهل عام 2011، بدءاً من تونس ومصر. ولقد تزايد الجدل حقاً عندما اصطدمت بعض الانتفاضات بردود فعل عنيفة في ليبيا وسورية واليمن، بخلاف التغيير السلس نسبياً الذي شهدته كل من تونس ومصر، والإصلاحات الدستورية والسياسية العميقة التي عرفها المغرب في جو من الاستقرار والتوافق. وبالنظر الى كل ما سبق، كان لا بد أن نطرح بضعة تساؤلات تتعلق بدور النُّخب العربية والإسلامية وموقفها من هذه التطورات البنيوية التي تجتاح المنطقة، بل تطحنها طحناً: هل ما زالت الهوية الوطنية أو القومية قادرة على تطوير خطاب سياسي جامع في «عالم ما بعد صراع الشرق والغرب» (ما بين الرأسمالية والاشتراكية) وبيئات ما بعد عصر «الهويات القومية» التي تجاوزتها مناطق عديدة من العالم، مع أنها تحنّ إليها بين الفينة الفينة؟ هل من المحتوم أن «الإسلام السياسي»، بمختلف اطيافه، هو الآن الهوية الوحيدة القابلة للحياة التي ستجدها هذه النُّخب أمامها؟ ومن ثم نتساءل: كيف نحافظ على الدين بصفته تراثاً مشتركاً لكل المواطنين وأن لا يكون محتكراً من لدن السياسة؟ كيف ننسج من خيوط الحوار، وكيف يمكن النُّخب ان تبني من التوافقات الحرة «دولة» تساوي بين مواطنيها، وتمد الجسور في ما بينهم، باختلاف أديانهم، ومذاهبهم، وأعراقهم، وألوانهم، ومصالحهم، حيث تمارس السياسة بالمعنى النبيل، بصفتها خدمة عمومية للمواطنين؟ اما ادبياً فقد احيا ملتقى أصيلة يوماً تكريمياً للشاعر محمد بنيس وقد شارك فيه شعراء ونقاد عرب وعالميون ومنهم: الشاعر الياباني بانيا ناتسويشي، الشاعر البحريني قاسم حداد، المترجم التركي محمد حق صوتشين، المستشرقة الايطالية فرنشيسكا كوراو بوبيو، الناقد المغربي عزالدين الشنتوف، الراسم الفرنسي فيليب عمروش، الروائي المغربي احمد المديني، الشاعر الأميركي بيير جوريس، الناقدة المغربية حورية الخمليشي، المستشرق الإسباني فدركو اربوس، الروائي خشونة المصباحي، الشاعر المغربي المحجوب الشوني، الشاعر الالماني جواشيم سارتوريوس، الشاعر اللبناني عبده وازن، الشاعر الفرنسي برنار نويل. وكتب الشاعر المهدي اخريف منسق اليوم التكريمي مقدماً الشاعر المحتفى به قائلاً: «محمد بنيس «حالة ثقافية فريدة»- بتعبير الشاعر الفلسطيني مراد السوداني. إنه حركية فرد بصيغة التعدّد في الأدوار والأفعال، ممتدة على مدى عقود. تجسدها مساهماته القوية في تطوير التجربة الثقافية الحداثية في المغرب منذ مطلع السبعينات الى اليوم. وتكفي الإشارة إلى دوره التأسيسي والتطويري لمجلة «الثقافة الجديدة»، ثم عمله المشع في بناء «بيت الشعر» في المغرب، بالإضافة الى ما قدّمه ويقدّمه الشاعر محمد بنيس من مقترحات وأعمال متواصلة لأجل الارتقاء المستمر بمنشورات «دار توبقال» منذ تأسيسها إلى اليوم. غير أن محمد بنيس شاعر قبل كل شيء، شاعر مجدّد بارز بأعماله الشعرية الخمسة عشر المنشورة، التي تُرجم العديد منها إلى أهم اللغات الحية في العالم والتي جعلت منه شاعراً مرموقاً على المستوى العالمي. وهو أيضاً شاعر عارف شغوف بما ترجمه من أعمال شعرية لأبرز الشعراء الفرنسيين وغير الفرنسيين. وحسبه أنه مترجم قصيدة «رمية نرد» لمالارمي، أصعب قصيدة في الشعر الفرنسي. ثم إنه أستاذ جامعي، وباحث أكاديمي مرموق، ساهم بكيفية حاسمة في تطوير طرائق البحث في الشعر المغربي والشعر العربي عبر أطروحتيه الأكاديميتين عن كليهما. كذلك من خلال قراءاته ومقارباته لقضايا الشعر في أعماله النثرية التي تُظهر بجلاء الإضافات القوية المجدّدة التي كرستها أعماله النثرية في مجملها بما تميّزت به من جراءة وحرية في مقاربة مواضيع متشابكة لها صلة بالراهن بمختلف تجلياته. ولا شك عندي في أن أهم الباحثين المختصين بالشعر في بلادنا اليوم والمنتمين لأجيال مختلفة مدينون لمحمد بنيس بما رسّخه فيهم من قيم الشغف، وشدة التطلُّب للمعرفة الشعرية، ومن تعلُّق بقلق السؤال أفقاً ومنهجاً لا محيد عنه في مغامرة الصحبة الشعرية. الرواية والكتابة الرقمية اما الندوة الأدبية الثانية فهي بعنوان «الرواية العربية وآفاق الكتابة الرقمية» والمشاركون فيها هم: النقاد المغاربة: محمود عبدالغني، عبدالحميد عقار، قاطمة كدو، شعيب حليفي، لطيفة البصير، عبدالفتاح الحجمري، سعيد يقطين، شرف الدين ماجدولين، الناقد اللبناني لطيف زيتوني والبحريني نادر حسن كاظم والتونسية جليلة الطريطر. وكان الروائي التونسي قد فاز ب «جائزة محمد زفزاف للرواية العربية» التي يمنحها ملتقى أصيلة. أما الندوة فتلحظ ان ثورة الاتصالات المتسارعة فتحت آفاقاً واسعة للرواية العربية لتنتقل من الورقي الى الرقمي، ومن الحسي إلى المفترض، لتصبح نصاً مكتوباً بالضياء (بعد أن كانت حبراً على ورق) يتوجه إلى قارئ- زائر لمواقع وصفحات شخصية، ومنتديات جماعية على الشبكة العنكبوتية، تخضع لرغائبه وتحولات نزواته القرائية. وهو الأفق الذي يمكّن الرواية العربية من القدرة على تخطي محدودية التلقّي، الذي سيَّجتْهُ لعقود طويلة، حواجزُ النشر والتوزيع بين أقطار الوطن العربي. لتسيح في عالم مفتوح. وهو ما ساهم في دمقرطة الكتابة والتلقي، وضَمِنَ إلى حد بعيد حرية ممارستهما، إضافة الى تخطي مختلف أشكال الرقابة والحظر. والظاهر أن كتابة الرواية الرقمية، بما هي نص متعدّد العلاقات والروابط، تسمح بممكنات وإبدالات جديدة لا تتأتى للمكتوب الورقي. مثلما تمكّن المتصفّح- المبحر من تقنيات ومداخل قرائية يوفرها المرقون الضوئي وحده. حيث يغدو القارئ إزاء سِفْر رقمي E-Book، يتم تداوله عبر سلسلة من الأجهزة الذكية التي صُنعت لهذا الغرض، وتسمح بتحميل آلاف الكتب وتخزينها بتكلفة شبه منعدمة. لكن، إذا كانت تلك بعضٌ من إمكانات الكتابة الإلكترونية المفتوحة أمام الرواية العربية، فما هو واقع تأثيرها على المشهد التداولي العربي لهذا الفن؟ وهل يمكن تقديم معالم تصوّر جديد لقراءة النصوص الروائية العربية، بخاصة بهذا الأفق المختلف؟ وكيف يمكن لهذه الوسائط التواصلية الطارئة مجتمعة أن تساهم في إنضاج الوعي العربي المعاصر بفن الرواية؟ الشيء الأكيد أن الكثير من البرامج الرقمية الجديدة تسمح بتلقي النصوص الروائية عبر تقنية الصوت أيضاً، وهو ما يُمكّن القارئ من الإنصات الى الرواية، وهو ما يضمن لضعاف السمع وذوي الاحتياجات الخاصة حقهم المكفول في تلقّي الرواية. وهو ما يصبّ في «عدالة القراءة» ودمقرطتها أيضاً. وهنا، تكون الإنسانية قد سجلت طفرتها الثانية في تاريخ القراءة والتلقّي، حين انتقلت من الشفاهي الى المكتوب في المرحلة الأولى، لتصل اليوم إلى مرحلة يلتقي فيها المكتوب البصري بالمكتوب المسموع. مرحلة تتفتح فيها كل حواس الكائن الإنساني لتلقّي العمل الروائي، وتذوّقه بصرياً والإنصات إليه إنصاتاً فنياً.