الأجنبي الزائر لمدينة أصيلة المغربية الأطلسية في هذه الفترة الصيفية التي تقيم فيها مهرجانها الثقافي الدولي، سواء وفد إليها للمرة الأولى أو لأكثر من مرة، لا شك يلفت نظره امتداد أفقها الأزرق المتقاطع مع بياض بنيانها الموشح، بالتدريج مع توالي أيام الملتقى الذي انطلق في العاشر من تموز (يوليو) الجاري بمشاركة وجوه من 45 بلداً، برسوم جدارية كبيرة، تحمل توقيع فنانين محليين وآخرين من مختلف أنحاء العالم. الانبهار والدهشة لا يأخذان المتجولين وحدهم، فحتى الرسامون ينتابهم الشعور نفسه الذي استبد بأربعة فنانين أنهوا الخميس الماضي في زقاق في المدينة القديمة أول عمل تشكيلي مشترك لفنانين إماراتيين. تتباهى بلدة الصيادين الصغيرة التي كانت مغمورة قبل ثلاثة عقود على لسان ابنها العمدة، الوزير السابق محمد بنعيسى، رئيس مؤسسة منتدى أصيلة المنظمة للملتقى، بأن صارت لها تجربة في إرساء ثقافة للفنون، وعلى رأسها الفنون التشكيلية، لأنها «كانت سباقة في مجال الممارسات الفنية المعاصرة وطرح الأسئلة الجوهرية في شأنها»، بفضل مهرجانها المتنوع الذي يعد حالياً إحدى أبرز التظاهرات الثقافية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجال التبادل الثقافي وإرساء ثقافة الحوار والسلام والتسامح. مناسبة هذا التباهي إحدى ندوات المهرجان المستمر حتى 26 من الشهر الجاري حول: «الفن المعاصر في ضوء الأزمة المالية الحالية» نظمت السبت الماضي، وشارك فيها نقاد ومثقفون ومسؤولون عن أروقة المعارض الفنية، من الإمارات ومصر ولبنان وسورية وتونس والمغرب وفرنسا وساحل العاج جسّوا نبض قدرة السوق الفنية على مقاومة الأزمة التي نالت من كل المجالات. وقد تفاءل المشاركون في عدد من المداخلات بأن الفنون لم تتأثر بالأزمة المالية، لقدرتها على ابتكار آليات لامتصاصها، وتمكنها من إيجاد المسافة اللازمة مع المحددات المالية والاقتصادية. وإذا كان الرسامون الإماراتيون الأربعة وسموا تاريخ فنهم وجدران أصيلة بجداريتهم المشتركة، فلأن بلدهم هو ضيف شرف الدورة 32 الحالية، إذ تحتفي الإمارات بتنوع ثقافتها في أكثر من مكان ومقام في مهرجان أصيلة، عبر عدد مهم من الأنشطة: بيت العود العربي ومركز العين للموسيقى في عالم الإسلام لإبراز دورها في دعم الموسيقى العربية، وعبر عروض لفرقتها الوطنية للفنون الشعبية والرقص الشعبي الإماراتي، وسوق للصناعات التقليدية الإماراتية، وعبر أمسيات شعرية ومعرض اللوحات التشكيلية ومعرض للخط العربي، وعبر معرض إثنوغرافي لحديقة «هيلي» الأركيولوجية، ومعرض للكتاب الإماراتي والفنون التقليدية المنظم بمبادرة من هيئة أبو ظبي للتراث والثقافة، وتم إهداء كتبه ومطبوعاته المعروضة إلى مكتبة الأمير بندر بن سلطان في أصيلة، عنواناً للتبادل الثقافي بين البلدين، وبمشاركتها في مختلف ندوات المهرجان. من أبرز محطات الدورة 32 لمهرجان أصيلة، كذلك، ندوة حول المفكر المغربي والعربي «محمد عابد الجابري: العقل المفقود» الذي غيّبه الموت في أيار (مايو) الماضي، وتم فيها تكريم مساره المميز بنقد العقل العربي والتراث الفلسفي والفكري العربي الإسلامي. وثمة محطة أخرى مميزة تمثلت في حصول الروائي السوري حنا مينه (86 سنة) الذي منعه المرض من حضور المهرجان، على جائزة محمد زفزاف للرواية العربية في دورتها الرابعة لعام 2010، تقديراً لمجموع أعماله، بصفته أحد أبرز رموز الإبداع العربي المجددين. وتبلغ قيمة جائزة محمد زفزاف (1945-2001)، وهو أشهر القاصين المغاربة على المستوى العربي، 10 آلاف دولار نقداً تمنحها مؤسسة منتدى أصيلة كل ثلاث سنوات بالتناوب مع جائزتي «تشيكايا أوتامسي» للشعر الإفريقي و«بلند الحيدري» للشعراء العرب الشباب. منذ 32 سنة ومهرجان أصيلة الثقافي يعمل على تأكيد الحاجة إليه كملتقى شامل للثقافات حول مختلف الانشغالات والإشكاليات المطروحة في مجالات الفكر والفلسفة والأدب والسياسة والاقتصاد والفن والمجتمع. ولا أدل على ذلك من اختيار موضوع الساعة عالمياً، الطاقات المتجددة، لافتتاح المهرجان، إذ استغرقت ندوة «الطاقات المتجددة: وثبة على طريق التنمية البشرية» 3 أيام، وتناول فيها مشاركون من فرنسا وإسبانيا والبرازيل والمملكة المتحدة والسنغال وكينيا والأردن والمغرب محاور» الواقع والطموحات: «كيف يمكن تجسير الهوة؟» و«التعاون الإقليمي والتنمية المستدامة» و«البعد الإنساني في الطاقات المتجددة»، فضلاً عن ندوات وموائد مستديرة أخرى حول التنمية البشرية والفكر والآداب والفنون، ضمنها «حوار الثقافات العربية: الواقع والتطلعات» و«الديبلوماسية والثقافة» و«الهندسة المعمارية الخضراء: التاريخ والآمال» و«الهجرة وحكم القانون في أوروبا» و«الموسيقى في عالم الإسلام» و«المشهد الأدبي في الإمارات العربية المتحدة اليوم» التي تختتم بها جامعة ابن عباد الصيفية في أصيلة برنامج ندواتها لهذه الدورة.