مؤشرات عديدة في الخطاب الاستراتيجي والسياسي الإسرائيلي تدل على العودة عبر تحليلات ودعوات هنا وهناك إلى طرح أفكار للتسوية تنتمي أو تندرج في الوضع الذي كان سائداً قبل 1967، ليس بالطبع من خلال التخلي عن الانسحاب الكلي من الأراضي الفلسطينيةالمحتلة والقبول بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أساس حدود 67 بل عكس ذلك كلياً من خلال العودة إلى تكريس مفهوم إسرائيل الكبرى بين البحر والنهر مع إجراء بعض الترتيبات التي تسميها إسرائيل تنازلات تبقى طفيفة جداً، ولكنها في حقيقة الأمر تمثل التخلي عن أثقال متعبة ومربكة لإسرائيل مثل حال غزة أو التخلي قدر الإمكان عن العنصر الديموغرافي الفلسطيني الضاغط أو إدماجه في دولة ثنائية القومية حسب النموذج العنصري لجنوب أفريقيا الأمس تحت عنوان يهودية الدولة التي تطغى بالطبع على العنوان «الديموقراطي» لدولة إسرائيل. المؤشرات الثلاث تبرز كما يأتي: 1 - دعوة وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان الى التخلي عن غزة كلياً وقطع كل الروابط معها وتحميل «مسؤولياتها» للمجتمع الدولي. ليبرمان يعبر بفجاجة وصراحة عن رأي واسع الانتشار وعائد بقوة في إسرائيل للتخلي عن المشكلة الغزاوية في مرحلة أولى عبر إلقائها كلياً في حضن المجتمع الدولي من خلال إحداث قطيعة كاملة جغرافية واجتماعية وسياسية بينها وبين الضفة الغربية ثم ربطها لاحقاً بمصر، وهو موقف إسرائيلي قديم على رغم ما يثيره من حساسية مشروعة قومياً واستراتيجياً وأخلاقياً في مصر. يساعد على سياسة فك الارتباط هذه بين «الكيانين» الجغرافيين السياسيين الفلسطينيين: الضفة الغربيةوغزة، الجمود القاتل في عملية تسوية معطلة أساساً والسياسة الإسرائيلية الناشطة في هذا التعطيل وفي تعزيزه، وبالطبع عنصر أساسي وأولي في إسهامه في هذا الأمر هو الحالة التي يعيشها البيت الفلسطيني المنقسم على نفسه وغياب أي أفق حقيقي في المدى المنظور لإنجاح المصالحة الوطنية الفلسطينية واهتمام كل من الطرفين بتعزيز إمساكه السياسي ومعه الأمني بالدويلة القائمة التي يحكمها سواء كانت غزة أو الضفة الغربية. غياب أي آفاق لكسر هذا الوضع القائم والسياقات السياسية المتباعدة التي نتجت عن هذا الوضع في دولتي الأمر الواقع الفلسطينيتين تشجع السياسة الإسرائيلية في شأن فصل غزة، وهو فصل مزدوج: فصل مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي القائم لغزةالمحتلة وفصل لغزة عن الضفة الغربية. 2 - العودة إلى إحياء سياسة «الأردن هي فلسطين» أو الخيار الأردني وهي سياسة تأتي تحت عناوين مختلفة هذه المرة تخفيفاً من فجاجتها وبعيداً عن العنوان الأساسي العائد والقائم على فلسطنة الأردن عبر تقديم صيغ دستورية مؤسسية لأنواع ودرجات مختلفة من الفيديرالية والكونفيديرالية للتخلص من العبء الديموغرافي الفلسطيني في الضفة الغربية ضمن معادلة إسرائيلية تقول بضم الكثير من الأرض والقليل من السكان. جملة من المؤشرات تعزز في الواقع هذه السياسة، منها الوضع الذي خلقته إسرائيل في الضفة الغربية والذي يجعل من شبه المستحيل إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. فسياسة التهويد تجرى بقوة عبر تدمير المنازل وطرد السكان بوسائل مختلفة ونزع أو إلغاء «الإقامات» في القدس ثم في جوارها لمن ليسوا مقدسيين والنشاط الاستيطاني السرطاني المنتشر ديموغرافياً وجغرافياً والذي حقق قفزات كبيرة بعد التوصل إلى اتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي (إعلان أوسلو)، وفرض قبول المستوطنات أمراً واقعاً وقبول ضمها إلى إسرائيل كما جاء في خطاب الضمانات الذي وجهه الرئيس الأميركي جورج بوش إلى رئيس وزراء إسرائيل أرييل شارون عام 2004 والذي صار جزءاً مستقراً في الخطاب التفاوضي القائم والسيطرة على أكثر من 85 في المئة من مصادر المياه في الضفة الغربية، وكما يذكر تقرير لمنظمة «بتسيليم»، وهي منظمة حقوقية غير حكومية إسرائيلية، صدر مطلع هذا الشهر، فصحيح أن المستوطنات مقامة على واحد في المئة من الأرض لكنها تسيطر فعلياً على 42 في المئة من أراضي الضفة كما يذكر التقرير، أضف إلى أن طبيعة الاستيطان الجغرافي وشبكة الطرق الإسرائيلية كلها تقطع أوصال الدولة الفلسطينية الموعودة وتجعلها غير قابلة للحياة لأسباب جغرافية ومائية واقتصادية في شكل خاص، ما يهيئ لعملية ربط الباقي من الأرض وتطفيش السكان الفلسطينيين لربطهم بالأردن ضمن واحدة من الصيغ المقترحة. وخير ما يعبر عن هذا المنطق مقالة لغاي بخور بعنوان «ضفتان فلسطينيتان» في صحيفة «يديعوت احرونوت» (15/7/2010) 3 - العودة إلى إحياء دولة إسرائيل الكبرى كما يعبر عن ذلك موشي آرينز وزير الدفاع السابق، بدعوته الى تسوية الدولة الواحدة التي تقوم على ضم فلسطينيي الضفة عبر منحهم المواطنة الإسرائيلية لمنع قيام دولة فلسطينية. ويطرح اليمين المتشدد وتحديداً اليمين الاستراتيجي الليكودي أساساً هذا الحل للقضاء على فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة ويقول رئيس الكنيست رؤوبين رفلين إنه يفضل منح المواطنة لسكان الضفة الغربية على إقامة دولة فلسطينية. وعلى رغم أن هذا الطرح يحاول أن يغلف ذاته بالحقوق المتساوية للمواطنة إلا أن الواقع الإسرائيلي القاتم والقائم منذ إنشاء الدولة والذي ازداد سوءاً مع الوقت فيما يتعلق بأشكال التمييز العنصري ضد فلسطينيي إسرائيل كافة وصعود قوة اليمين المتطرف الديني والعلماني في إسرائيل والتأكيد على يهودية الدولة، كلها عناصر تعني في نهاية الأمر أن خيار الدولة الواحدة سيقوم في واقع الأمر على مأسسة النظام العنصري حسب نموذج جنوب أفريقيا الأمس. ويلتقي هذا الخيار مثل الخيار الثاني في تعزيز الخيار الأول، اي خيار التخلي عن غزة وربطها حسب النموذج الأردني لاحقاً بمصر على رغم اختلاف العناصر التاريخية والمجتمعية بين الحالتين. هذه العودة إلى الخيارات الخطيرة المذكورة تتكرس كل يوم وتطل برأسها في شكل أكثر وقاحة مستندة إلى ميزان قوى يميل كلياً لمصلحة إسرائيل. ويعزز هذا المنحى في شكل خاص الانقسام الحاد في البيت الفلسطيني والشلل الكبير والتبعثر الحاصل في البيت العربي الأوسع، وفي ضوء كل ذلك تتجه القضية الفلسطينية نحو مزيد من التأزم والتشوه حاملة مزيداً من عناصر التفجير في المنطقة طالما بقي الموقف الفلسطيني العربي غارقاً في الخلاف حول «جنس الملائكة» بين مفاوضات غير مباشرة لم تستطع أن تقلع ووعود تحملها مفاوضات مباشرة لن تستطيع أن تفي بها هذه الأخيرة في ظل التوازنات القائمة والتي تتعزز كل يوم. * كاتب سياسي لبناني