حريتك في التفكير والتعبير في البلاد العربية تقف عن حدود البحث في مسلمات بعضها ديني (نصر حامد أبو زيد نموذجاً) وبعضها تقاليد اجتماعية تنسب إلى الدين. وتقف حريتك أيضاً عند حدود نقد الحاكم الذي يستمد شرعيته من أحكام الدين. في أوروبا تقف حريتك عند حدود البحث في شرعية وجود إسرائيل. هنا شرّعت قوانين تعاقب كل من يجرؤ على طرح هذا السؤال. هنا استبدل المقدس الديني بمقدس سياسي يهودي لا يقدسه كل اليهود. لذا لم يكن مفاجئاً الغضب الأميركي الرسمي من الصحافية هيلين توماس وطردها من عملها وإجبارها على التقاعد، بعد 50 سنة على عملها عميدة المراسلين في البيت الأبيض. هيلين تجرأت على «المقدس» ودعت الإسرائيليين إلى العودة من حيث أتوا إلى بولندا وألمانيا وغيرهما. لم يكن طردها مفاجئاً فالإدارات الأميركية والأوروبية تشرّع طرد شعب كامل من أرضه، وتحمي اللصوص بكل الوسائل، بما فيها تضييق حرية التعبير التي تشن باسمها حروباً وتدمر بلداناً ل «تحرير» شعوبها من الديكتاتوريات، مثلما حصل في العراق، وقد يحصل في إيران، وفي بلدان أخرى معادية لإسرائيل. وليس مفاجئاً طرد الصحافية اللبنانية من أصل فلسطيني أوكتافيا نصر من عملها في «سي إن إن»، بعد 20 سنة على عملها في هذه القناة الأميركية الرائدة. المفاجئ فعلاً ان يقتصر رد الفعل على الطرد. ذنب أوكتافيا كبير جداً في الأعراف الأميركية التي ترسخت وتحولت إلى قوانين خلال الستين سنة الماضية، قوانين عطلت العقل وأعاقت البحث التاريخي في المسألة اليهودية، لأن أي نقد للصهيونية أو لإسرائيل يتحول إلى تهمة بمعاداة السامية ويعرض قائله للملاحقة القضائية. وإذا كانت هيلين «تطاولت» على «المقدس»، فاستحقت الطرد، فإن ذنب أوكتافيا أنها أعربت عن حزنها على السيد محمد حسين فضل الله، رجل الدين الشيعي المتنور، والتقدمي، بالمعنى الحديث للكلمة، مقارنة بأمثاله المسلمين وغير المسلمين، لكنه في الولاياتالمتحدة إرهابي لأنه ضد إسرائيل والصهيونية، وهو في هذا المعنى معادٍ للسامية. الواقع أن مراقبة الصحافيين والإعلاميين وأصحاب الرأي في أوروبا وأميركا، ومحاسبتهم على أي كلمة ضد إسرائيل لا تقتصر على مراقبة العرب وحدهم، فالأوروبيون والأميركيون أيضاً معرضون لهذه الرقابة والملاحقة. السفيرة البريطانية في بيروت فرنسيس غاي كتبت في مدونتها الخاصة أنها حزنت لرحيل فضل الله وأن العالم «في حاجة إلى المزيد من أمثاله الذين يريدون التواصل بين الأديان»، ثم اضطرت إلى الإعتذار بديبلوماسية بعد حملة إسرائيلية عليها. ويتوقع كثيرون أن تقدم لندن على تغييرها، في ظل حكومة المحافظين الجديدة. يخجل العربي من انتقاد الحريات في أوروبا وأميركا نظراً إلى ما يعانيه في بلاده من كبت واعتداء على حريته. لكن عندما يكره الإنسان على أن يكون موالياً للصهيونية (ساوتها الأممالمتحدة بالعنصرية وألغي هذا القرار من سنوات قليلة بضغط من جورج بوش) فهذا منتهى الإستبداد، فضلاً عن أنه قرار سياسي يحول دون إنتاج أبحاث تاريخية ذات قيمة. ويرسخ أبحاثاً منطلقها عقدة ذنب تحولت إلى أيديولوجيا قاهرة. سنشهد حالات كثيرة مماثلة لحالة هيلين وأوكتافيا. ربما من أجل ذلك نجد صحافيين ومثقفين عرباً يغالون في جلد الذات وإسباغ القداسة على كل ما ينتجه الغرب بما فيه مقدسه الإسرائيلي.