لا أظن أن تعرفي على فكر السيد محمد حسين فضل الله في عز شبابي كان محض صدفة. مع أني تلقيتُ في بيت أبويَّ تربية تخلو من الدين، وانخرطتُ باكراً جداً في تنظيمات يسارية، واتجهتْ كل قراءاتي في هذا المنحى. يمكنني أن اختار تسجيل بدء تعرفي على فكر السيد على هذا المنوال: قراءة تفسيره للقرآن، بعدما أعيتني، وبصراحة أضجرتني، قراءة «في ظلال القرآن» لسيد قطب. بداية، وعلى رغم أن جَدي لأبي لم يكن يقطع فرضاً وكنت شديدة التعلق به، إلا أني لم اسع إلى قراءة القرآن إلا بعد حادثة اعتقالي في إسرائيل، حيث ظننتُ ساعتها أني سأمضي هناك سنوات طوالاً. وكانت الفكرة الأولى التي خرجتْ إلى ذهني إذاك، أنها ستكون فرصة لي لحفظ القرآن. وقد استغربتُ أصلها وفصلها، ولماذا خطرتْ لي، ولكنها دفعتني إلى المباشرة بقراءته، على الأقل، وذلك فور عودتي من اعتقال كان في غاية القصر. ولما اشتكيتُ من سيد قطب، جاءني الصديق الغالي الشهيد خليل عكاوي بتفسير السيد فضل الله للقرآن. وكان اكتشافاً بالنسبة لي. فهنا توافرت أمامي مقاربة واسعة الأفق، تأويلية، محدثة، للنص المقدس. ثم راح خليل يأتيني بنشرة السيد تباعاً، وكان هو يبحث في الإسلام، بعد انتقاله إليه من الانتماء اليساري المتطرف الذي كان عليه، عن رؤية عصرية، دينامية، ومنحازة إلى الفقراء. نبشنا سوياً، مع مجموعة من الأصدقاء في دوائر متعددة، الفكر والتاريخ الإسلاميين، وكنتُ بالتأكيد الأقل تأهيلاً من بينهم، والأكثر انشداداً في الوقت نفسه إلى مهمات عملية كانت التزاماتي ومسؤولياتي السياسية تفرضها عليّ. ولكن، وعلى رغم ذلك، أثرت بي تلك القراءات ودفعتني لإيلاء اهتمام كبير إلى فرضية أن يحمل الفكر الديني وتاريخ الأديان شيئاً آخر غير التصنيف العجول والتبسيطي والقاطع في آن، الذي اعتدنا عليه في الإطار اليساري، بل الحداثي عموماً. ويمكنني أن أختار تسجيلاً آخر لتعرفي بفكر السيد. فقد كان يمكن لواقعة تلك القراءة الأولى أن تمر مرور الكرام، لولا بروز حركات لاهوت التحرير الأميركية اللاتينية وتقاطعها مع الحركات اليسارية هناك، في وقت كانت بلدان تلك القارة تقاتل ضد الهجمة الأميركية الشمالية ومخططات هيمنتها الدموية. بدا لي أن كتابات السيد وخطبه وتصريحاته تحمل نفحات من روح لاهوت التحرير. كنت قد اطلعتُ في شكل جزئي للغاية، وسماعيّ، على «تجربة النبعة»، ذلك الحي المكتظ بالمعدمين من كل نوع، وبالأخص منهم المهاجرين الريفيين، حيث أقام السيد بعد وفوده من العراق. ولكن ثمة كلمات أو جمل تقدح أحياناً في الخيال، وتبقى متوهجة حتى وهي مقتطعة ومقتضبة. وهكذا كانت تلك المقاطع المتناثرة عن تجربة السيد في النبعة، في وقت كانت الأحزاب اليسارية تسعى، هي الأخرى، للتواصل مع هؤلاء الفقراء. ويمكن أن أسجل أيضاً سبباً موضوعياً متمثلاً بصعود حركات الإسلام السياسي، وقوتها في الساحة (و«الساحة» هذه واحدة من أكثر المفردات تكراراً في كتابات السيد، وكانت «الترجمة» اليسارية لها تتراوح بين «الحقل» و «الظرف» بحسب السياق). وهي فرضت على كل منخرط في العمل السياسي والفكري الالتفات إليها، والاهتمام بها، ولو بتفاوت في طبيعة ذلك الاهتمام. كل تلك الاحتمالات تتقاطع في الواقع، ولعله يضاف إليها عنصر، هو الآخر تربوي بيتي، بمقدار ما هو جيلي، وبمقدار ما هو مرتهن أيضاً بالتكوين الخاص بكل واحد منا (وهذه كيمياء غامضة). وهذا العنصر هو النفور من كل الدوغمائيات، والميل إلى البحث بحرية (تحتمل الغلط بالتأكيد، وعدم الوصول) عن أجوبة عن المعضلات التي يراها واحدنا أمامه. وهذا ما سهَّل ولا شك في افتتاني بالسيّد، كما تيقظي لالتقاط ما يمكن، في الفكر والتاريخ الإسلاميين، أن يفيد قلقي. وهو تسبب بغضب قيادة التنظيم اليساري الذي كنت عضواً في مكتبه السياسي، الذي نظر إلى الأمر بوصفه «انحرافاً»! بعدها راحت الأمور تسير وفق تطور منطقي. مزيد من رصد كل ما يقول الرجل: هل أنسى فتوى إجازة أكل القطط والكلاب لمحاصري مخيمي صبرا وشاتيلا من اللاجئين الفلسطينيين، في النصف الثاني من ثمانينات القرن الفائت، وهم بالكاد خارجون من مجزرة 1982. كانت تلك إدانة ما بعدها إدانة لذلك الحصار، تتوسل الدين وفق ما كنت أراه تماماً. ثم اقتناص لأول حجة لزيارته. وفي إحدى المرات الأولى لزياراتي للسيد، سألته عن كتابات له في المسألة النسوية، فطلب من هاني عبد الله أن يأتيني بسرعة بمؤلفاته. وكم عجبت حين تصفحتها في البيت ووجدت أن بعضها كان شعراً من الغزل الرقيق! وحين توفيت والدتي واتصل بي معزياً، تضاعف تأثري، إذ تذكرت ذلك المقطع الذي يحكي فيه عن وفاة والدته هو، ويقول إنه، وكان قد تجاوز الخمسين، شعر بأنه قد تيتم. لست بصدد الدخول في استعراض لمواقف السيد. فهذا يتطلب دراسة جادة. ولكني أسجل هنا مثابرته في التأثير على مواقف الناس واهتمامه بإعادة تربيتهم، ومشقة ذلك، خصوصاً حين يخالف هواهم ويتصدى للموجة العاتية السائدة. أذكر تلك الدراسة عن «ضلع فاطمة»، التي سعى السيد فيها إلى نفي حدوث الواقعة، علاوة على تسجيل فواتها والدعوة للالتفات إلى الواقع الراهن وضروراته، بينما القصة واحدة من بعض الروايات التي تحاول تأسيس عصبية شيعية. رُدَّ على كراس السيّد بأكثر من عشرة كتب تدحض ما ذهب إليه، بل تتطاول عليه!، وهو معلوم عنه مقدار قتاله من أجل توحيد أو تقريب الشيعة والسنة. فعلاوة على المحاجّات الفكرية والسياسية، رفع السيد في المساجد التي تتبعه ذكر «الشهادة الثالثة»، كما كان يفتي بمباشرة الصيام والأعياد وفق ما يناسب توحيدها، علاوة على تطبيق مقاييس علمية في تحديدها، عوضاً عن تلك الكيدية. وقد يبدو الانقسام أقوى من معالجته بواسطة تلك المواقف والفتاوى، إلا أنها تبقى مرجعاً في العقول والنفوس، وإن خالفها السلوك المباشر، تماماً كما هي قاعدة «لو خُليت قُلبت»، التي تؤسس لأهمية الصحيح في عز غلبة الباطل، وتؤكد الأمل. لن أنهي هذه الكلمات دون ذكر تلك الفتاوى الثلاث الأخيرة في السنوات الماضية، حول النساء. وأهمها تلك التي ترى في ما يقال له «جرائم الشرف» جريمة مزدوجة، تستحق أقصى عقوبة في الدنيا والآخرة، لأنها ترتكب من قريب... كم سنفتقد السيد؟!