«قبل أحد وسبعين عاماً هبط الموت من السماء وغيّر وجه العالم إلى الأبد». هذه الكلمات جاءت بصوت الرئيس الأميركي باراك أوباما من «منبع الشمس» أي من اليابان، وتحديداً من مدينة «هيروشيما». إلى هناك ذهب أوباما في 27 أيار (مايو) الماضي ليشارك المسؤولين اليابانيين في ذكرى سقوط القنبلة الذرية الأميركية على هيروشيما وقد أبادتها، بشراً، وحجراً، ونباتاً، وحوّلتها غمامة رمادية أسطورية تصاعدت إلى السماء، حاملة في طياتها أرواح مئة وأربعين ألف ياباني ويابانية من مختلف الأعمار، مخلّفة وراءها مئات آلاف المشوّهين بالإشعاعات النووية، عدا العاهات التي لاحقت أجيالاً توالدت على مدى عقود من الزمن. هي الزيارة الثانية المثيرة لعلامات الاستفهام التي يقوم بها الرئيس أوباما بعد زيارته كوبا الجزيرة الشيوعية الصغيرة المجاورة للدولة العظمى الشاسعة الأرجاء براً وبحراً. وإذا كانت زيارة كوبا قد فكّت الحصار الاقتصادي عنها وأنعشت آمالها بالانفتاح والإنماء، فزيارة هيروشيما أعادت الى اليابانيين ذكرى الموت والانكسار. إذ نشرت صحف أوروبية في ذلك الزمن تقول إن الجنرال ماك آرثر الذي قاد الجيوش والأساطيل الأميركية الى اليابان دخل القصر الإمبراطوري في طوكيو، وجلس في ديوان «الميكادو هيرو هيتو» خلف مكتبه. وعلى الطريقة الأميركية رفع الجنرال رجليه فوق الطاولة، ثم ترك عليها ورقة نقدية من فئة دولار كعلامة على أن القرار صار للأميركي. لكن، لماذا اختار أوباما أن يكسر القاعدة التي التزمها الرؤساء الأميركيون خلال إحدى وسبعين سنة، فيزور اليابان ويذهب الى هيروشيما وإلى النصب التذكاري لضحاياها؟ ولماذا أرجأ هذه الزيارة حتى النصف الثاني والأخير من السنة الأخيرة من رئاسته؟ الجواب عنده... فلو أعلن أنه ذاهب الى هيروشيما ليعتذر من الشعب الياباني عن الكارثة التي أصابته نتيجة القنبلة المبيدة التي صنعتها دولته وفجّرتها في أرضه لكان استحق جائزة شرف وسلام. لكن ما فعله أوباما هو العكس. فيوم غادر واشنطن سبقه بيان صادر عن البيت الأبيض مفاده بأن الرئيس لا يحمل اعتذاراً الى الشعب الياباني، كما أن الدولة اليابانية لم تطلب من الإدارة الأميركية اعتذاراً. وعلى هذا الأساس أعلن أوباما أنه لن يعتذر. وكما لو أنه مُطالب بالاعتذار كرّر قراره «لن أعتذر» فذهب تصريحه عنواناً الى وسائل الإعلام في أنحاء العالم. وفي ذلك اليوم كانت محطات التلفزة مفتوحة على الحدث في هيروشيما حيث ظهر أوباما واقفاً أمام النصب التذكاري في موقع سقوط القنبلة المبيدة وإلى جانبه رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، ومعه عجوزان هما الباقيان من الذين كُتبت لهم الحياة بعد قنبلة هيروشيما، وقد دعيا الى المشاركة في استقبال الرئيس الذي صنعت دولته القنبلة المبيدة. وكان ملفتاً أن أوباما أبدى اهتماماً خاصاً بالعجوزين اليابانيين، حتى أنه نظر من قرب الى أحدهما وحدّق في عينيه المزمومتين، وقد بدا وكأنه يكاد ينحني أمامه ليعتذر منه نيابة عن الشعب الأميركي. لكن المفاجأة أتت من ذلك العجوز، إذ هو تلاشى وارتمى بين ذراعي أوباما فما كان من الرئيس إلا أن احتضنه مواسياً، فانقلب المشهد: القتيل يحتمي بالقاتل. ثم كان على رئيس الوزراء الياباني أن يقول كلمة، وقد قالها: «من أعماق قلبي أودّ أن أرحب بهذه الزيارة التاريخية التي لم يكن ينتظرها سكان هيروشيما فحسب. بل جميع الشعب الياباني. هكذا يطوي الزمن الحروب والآلام، كما يطوي الانتصارات، لكن تبقى الهزائم ماثلة في التاريخ لتتذكرها الأجيال، وربما لتتعلم منها. وهذا ما فعلته اليابان، الدولة والشعب. فهي «دولة عظمى» بالاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا»، وهي توازي الولاياتالمتحدة الأميركية في هذا المضمار. بل إنها تستطيع أن تقول لها «لا». هذه ال «لا» اليابانية في وجه أميركا قالها كاتب ياباني سياسي مثقف ووزير سابق في كتاب له شهير عنوانه «اليابان القادرة على قول «لا». وقد أثار الكتاب الذي أصدره شينتارو إيشيهارا في العام 1991 ضجة في الولاياتالمتحدة، وصخباً في الصحافة الأميركية، وفق تقديم الطبعة الأميركية (صدرت الطبعة العربية عام 1991 عن دار الحمراء في بيروت). ولا ينكر اليابانيون حاجتهم إلى ترويض النفس القومية لدى الأجيال الجديدة لتنشئتها على التسامح والاندماج وهي تراجع مجريات الحروب التي خاضتها بلادها في حالات المبادرة الى الهجوم، كما في حالات الدفاع عن النفس. وثمّة مثال على ما جرى بعد الحرب العالمية الثانية بين دول «العالم الحر» ممثلة بأوروبا الغربية والولاياتالمتحدة الأميركية من جهة، ودول المحور النازي الذي جمع ألمانيا (هتلر) وإيطاليا (موسوليني) واليابان من جهة أخرى. اليابان حالياً هي والولاياتالمتحدة الأميركية في طليعة المرحلة الانتقالية العالمية من القرن العشرين الى القرن الواحد والعشرين وعلى هذه الطليعة أن تتوافق على رؤية مشتركة لمستقبل البشرية في عصرنا. لكن إذ يتدخل العنصر القومي الياباني في تصور ذلك المستقبل تصدر عنه ملاحظات تشير الى أن ثمة فارقاً شاسعاً بين تاريخ الولاياتالمتحدة الأميركية وتاريخ الإمبراطورية اليابانية. وعلى رغم مرور سبعة عقود على نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى رغم التطور العلمي الجبّار خلال المرحلة السابقة، يشعر اليابانيون بأن الأميركيين لا يثقون بهم. ثمّ إن الأميركيين يؤكدون لليابانيين صحّة هذا الحدس... وهكذا يسود الاعتقاد الياباني بأن حضارة الغرب الأميركي مصطنعة، ولا بد أن تتوقف عند حدّ. لتعود وتبرز وتتجلّى في عالم المحيط الهادئ حيث الشعور الإنساني الطبيعي منزّه عن العنصرية والغطرسة. وهذا يعني أن الدور المتقدم في مضمار الحضارة والمدنية هو لليابان. هذه الخلاصة من الماضي، المستمر في الحاضر، تشكّل لليابانيين رؤية للمستقبل تكون فيه لدولتهم مكانة متقدمة على سواها من الدول المصنفة «عظمى». يورد مؤلف كتاب «اليابان تقول لا لأميركا» مثالاً على الفارق بين بلاده والولاياتالمتحدة الأميركية، فيقول: «في أعقاب الحرب العالمية الثانية قامت الولاياتالمتحدة بتنصيب نفسها في وظيفة الشرطي للعالم الحر، فتدخلت عسكرياً في كل من أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. أما اليابان فإنها لا تحارب إلا إذا هوجمت. وفي حال تعرّضها للهجوم لا تقاتل إلا فوق أراضيها». ويذكر في فصل آخر: عندما يقول معظم اليابانيين إن الولاياتالمتحدة شريك لا غنى عنه لليابان فإنهم يعبرون عن إعجابهم بأميركا واحترامهم لها. ولكنني أشعر في كثير من الأحيان بأنه عندما يناشد الأميركيون اليابان لتكون «شريكاً متساوياً لهم» فإنهم يعتقدون بالفعل بأننا أدنى منهم ولسنا جديرين بعد باحترامهم وإعجابهم. لماذا يكنّ الشعبان هذه المشاعر المختلفة، الواحد منهم تجاه الآخر؟ يطرح الياباني شينتارو إيشيهارا السؤال ليجيب: هناك سبب يرجع الى إرث حرب المحيط الهادئ، أو الى عقلية المنتصرين والخاسرين. ويضيف: لم تقدّر الولاياتالمتحدةاليابان حق قدرها لتبادلها بالاستحسان الكافي، حتى أنها لم تحملنا على محمل الجد، لأننا كنا منذ العام 1945 طوع بنان العم سام وتحت سلطته ونفوذه. واليوم (1991) قد يشعر الأميركيون بأن اليابان تخرج عن طوعهم وسيطرتهم. وفي رأيي ينبغي لليابان ألا تفك ارتباطها على الفور بنظام الأمن الأميركي. بل يجب الحفاظ على العلاقة الخاصة بين طوكيووواشنطن من أجل مصلحة منطقة المحيط الهادئ بكاملها». وفي الختام يقول شينتارو إيشيهارا: «العلاقة الثنائية بين اليابانوالولاياتالمتحدة الأميركية تحتاج الى إعادة تحديد وتعريف»، وهو اقترح إنشاء ندوة يابانية - أميركية لتبادل الرأي. وحيث يناقش المشترعون من اليابان وأميركا موضوعات التجارة لا مانع من إعادة النظر في المعاهدة الأمنية في ضوء الوقائع الراهنة. فالخيار ليس بين الإلغاء والإبقاء على الترتيبات المجحفة. وعلى الولاياتالمتحدة أن تقبل بالواقع. فاليابان تتمتع بالقوة الكافية على الصعيد التكنولوجي والمالي لكي تخلق قوة عسكرية دفاعية مستقلة...». وحتى اليوم، وبعد كل ذلك التاريخ، لا يجد الرئيس الأميركي أوباما سبباً للاعتذار من اليابان. * كاتب وصحافي لبناني