قوضت الحربُ العالمية الأولى أركان المشرق العربي بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتقاسُم ولاياتها العربية بين القوتين الأوروبيتين المُنتصرتين بريطانياوفرنسا. هكذا جلس السير البريطاني مارك سايكس والديبلوماسي الفرنسي جورج فرنسوا بيكو حول مائدة في مقر وزارة الخارجية ب «داونينغ ستريت»، ورسما خريطة النفوذ الجديدة في المنطقة، فكانت حصة بريطانيافلسطينوالعراق والأردن، إلى جانب مصر. أما سورية الحالية ولبنان وشمال العراق (الموصل)، إضافة للمغرب العربي، فكانت من حصة فرنسا. ولم يستند تقاسُم مناطق النفوذ هذا إلى منطق جغرافي أو مُبرر تاريخي أو مُقوِّم اقتصادي أو ديموغرافي، إذ كان أساسُه حرمانَ ألمانيا من الكعكة. ومَردُّ ذلك إلى أن دخول الإمبراطورية الألمانية (أُنْشِئت في 1871) إلى الساحة العثمانية كرَّس بداية عهدٍ جديدٍ في السياسة الدولية جعل ألمانيا تحُلُّ محلَّ روسيا، باعتبارها الخطر الرئيس على مصالح بريطانيا. وستُهيمن هذه المنافسة بين ألمانيا من جهة وفرنساوبريطانيا من جهة ثانية على مُجمل التحولات التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين، إلى أن بدأت تتجلى في السنوات الأربع الأخيرة بوادرُ تغييرات كبرى في الخريطة التي رُسمت للمنطقة العربية قبل مئة عام، خصوصاً بعد دخول لاعبين جددٍ إلى المسرح وفي مقدمهم «تنظيم الدولة» والحركات الكردية. تلك هي الأطروحة التي يناقشها كتاب «الطريق إلى سايكس بيكو: الحرب العالمية الأولى بعيون عربية». سايكس بيكو و «داعش» ودلَّ الانهيار السريع لحدود سايكس بيكو (16 أيار/مايو 1916) أمام اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف إعلاميّاً ب «داعش»، مُحافظات عراقية وسورية (2014) على أن المنطقة مُقبلة، لا محالة، على خريطة جديدة لم تتبلور ملامحُها بعدُ، إثر حركات النزوح والهجرة، التي شملت الملايين من السوريين والعراقيين. وليس واضحاً من هي القوى التي ستفرض الخريطة الجديدة مع نهاية الصراع، لا سيما أن الولاياتالمتحدة اختارت خط الانكفاء الاستراتيجي من المنطقة، وسط تنامي الدور الروسي وتعاظم النفوذ الإيراني. من هنا ضرورة معاودة النظر في سياقات الحرب العالمية الأولى ونتائجها، وهو ما يفرض العودة إلى الجذور، أي: إلى دوافع ذاك النزاع الكوني، ثم قراءة مشاهِدِهِ بزواياها المختلفة، القتالية والاستراتيجية والاقتصادية والإنسانية، بعيون عربية، بُغية رصد تداعياته على مُجمل البلاد العربية. فعلى رغم وعود الاستقلال التي أعطيت للعرب، مقابل نُصرة الحلفاء أثناء الصراع، خرجت البلدان العربية من الحرب صفر اليدين، بل رفض مؤتمر الصلح في باريس الاستماع إلى وفودها. وعلى قدر تهميش العرب وتقاسُم أراضيهم بعد الحرب، انقادت غالبية الكتابات التأريخية التي تناولت تلك الحقبة إلى نظرة المُنتصرين، عدا بعض الكتابات الموضوعية العربية والأجنبية القليلة. لم يقتصر المجهود الحربي الذي تكبَّدهُ المُجندون العرب على المهمات القتالية في ساحات الوغى، وإنما شمل أيضاً العمال المُجندين في الأنشطة المدنية، للحلول محلَّ القوى العاملة التي أرسلت للجبهات في البلدان المشاركة في الحرب. وأتت غالبية هؤلاء المجنَّدين المدنيين من المغرب العربي وتوزعوا على المدن الكبرى، وأحياناً في بعض المناطق الريفية لتعويض العمال الزراعيين الذين استُدعوا للجبهة. وطرح هذا الوضع مشاكل جمة بعدما وضعت الحرب أوزارها، فهؤلاء العمال الذين حُشروا في ما يُشبه المعازل (الغيتوات) وجدوا أنفسهم مُهمَّشين ومنبوذين من أهل البلد بعد الحرب، وتجاهلتهم حتى المنظمات النقابية والأوساط العمالية. أما بريطانيا فعبَّأت من سكان مصر وحدها مليوناً ومئتي ألف مُجند من «القوات المُعاونة» خلال الحرب، في وقت كان فيه تعداد سكان مصر لا يزيد على 14 مليون نسمة كما يقول علي عفيفي غازي في ورقته المنشورة ضمن الكتاب. وكانت التعبئة تتم مرتين أو ثلاث مرات سنوياً، ويُستدعى منها في كل مرة حوالى 135 ألف رجلٍ، وشاركت «فيالق العمال» المصرية في بناء التحصينات والجسور ومد أنابيب المياه والخطوط الحديد عبر الصحراء وحمل الأثقال على الظهور. وتمَّ استخدام أكثر من ثمانية آلاف في العراق، أما في عام 1916 فتمَّ إرسال أكثر من 10 آلاف من العمال والفلاحين إلى ميادين القتال على الجبهة الأوروبية في فرنسا. وظلت القوات المصرية تُقاتل بعد نهاية الحرب في بيروت ودمشق وفلسطين حتى عام 1920. ولا يزال الفولكلور المصري يحفظ، بين ما يحفظ، ذلك الموال الحزين الذي يبدأ بالمطلع الشهير «بلدي يا بلدي والسلطة أخذت ولدي، يا عزيز عيني وأنا بدي أرَوَّح بلدي»، والذي تردَّد في أنحاء مصر خلال سنوات الحرب العالمية الأولى؛ تعبيراً عن الظلم الذي لقيه الفلاحون من السلطة العسكرية الانكليزية في تلك الفترة. أما المغاربة على سبيل المثال فقُتل منهم ما لا يقل عن 12000 رجل من أصل 45000 من الرماة والفرسان (السباهي) الذين انخرطوا مباشرة في جبهات فرنسا والمشرق، أي: ما نسبته 26.6 في المئة من العدد الإجمالي للمُجنّدين. وتتجاوز هذه النسبة في شكل واضح حجم الخسائر التي تعرَّض لها المُجندون الفرنسيون في الحرب (22 في المئة). يُضاف إلى هؤلاء من قضوا من الجوع، خصوصاً في جبل لبنان، إذ يُقدّر عددهم ب800 ألف شخص. الصراع على النفط وبرز النفط كعنصر رئيس في المنافسة بين الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب، إذ «أضيف الصراع من أجل السيطرة على أكبر المخزونات الدولية النفطية في العالم إلى الجيوبوليتيكا التقليدية القائمة على طريق الهند والسيطرة على الأماكن المقدسة للديانات التوحيدية» (هنري لورانس: اللعبة الكبرى – الشرق العربي المعاصر والصراعات الدولية، ترجمة محمد مخلوف). بهذا المعنى تحول الشرق العربي، باعتباره مصدراً أساسيّاً للذهب الأسود، إلى مسرح للمنافسات الدولية في القرن العشرين. وفي الوقت نفسه اندلعت انتفاضات بعد نهاية الحرب العالمية الأولى رفضاً للمصير الذي سطَّره الغربيون للمنطقة، أبرزها في العراق وسورية والمغرب والسودان. فبين تموز (يوليو) 1920 وشباط (فبراير) 1921 شهدت الأرض المعروفة عند البريطانيين باسم بلاد الرافدين أو العراق اليوم، «انتفاضة عربية كادت تُلحق هزيمة ساحقة بالامبراطورية البريطانية». وكتب عالم الاقتصاد والمؤرخ البريطاني أيان روتلدج في كتابه بعنوان «عدو في الفرات: الاحتلال البريطاني للعراق والثورة العربية الكبرى بين 1914 و1921»، أن «ثورة عام 1920 في العراق شكَّلت الانتفاضة المسلحة الأخطر على الحكم البريطاني في القرن العشرين» (سوزانا طربوش: انتفاضة عراقية كادت تلحِق هزيمة ساحقة بالإمبراطورية البريطانية). بالإضافة إلى التداعيات الجيواستراتيجية للحرب، كان لها أيضاً تأثير حاسم في ظهور الحركات الإصلاحية والأحزاب الوطنية في العالم العربي، التي تشجعت بإعلان مبادئ الرئيس ويلسون عن حق الشعوب في تقرير مصيرها من جهة، وبالثورة الروسية من جهة أخرى. وبهذا المعنى شكَّلت فترة ما بين الحربين العالميتين مرحلة نضج الحركات الوطنية وتبلورها فكريّاً وإعلاميّاً وتنظيميّاً. وهذا ما جعل المؤرخ الجزائري الراحل أبو القاسم سعد الله يعتبر أنه «برغم ما قيل عن سلبيات الاستعمار فإنه كان للكثير من الشعوب الصدمة التي أيقظتها لتكتشف هويتها ومصيرها». وتكاد هذه التأثيرات تكون مشتركة بين البلدان العربية، فلم يمض وقت طويل على نهاية الحرب في تشرين الثاني (نوفمبر) 1918 حتى انفجرت أكبر ثورة عرفتها مصر في تاريخها الحديث، وهي ثورة 1919، إلى جانب ظهور حركة داعية للوحدة الثقافية كانت تحمل لواءها «رابطة الشرق» في القاهرة، التي كان يتزعمها عبد الحميد البكري وأحمد زكي باشا وأحمد شفيق، وجمعية الشبان المسلمين التي يترأسها رجل الحزب الوطني عبدالحميد بك سعيد. كما أن سعد زغلول الذي كان يُنتقد لمواقفه الانعزالية، سارع لدى اقتحام القوات الفرنسية سورية، إلى توجيه «نداء إلى الأمة» (المصرية) من أجل «نجدة سورية التي تربطنا بها روابط وثيقة من تاريخ ولغة ودين وعادات وجوار»، وحضَّ الناس على المشاركة في حملة تبرعات افتتحها بنفسه (ذوقان قرقوط: تطور الفكرة العربية في مصر 1805-1936). قُصارى القول أن إحياء مئوية سايكس بيكو ليس مناسبة لسرد التاريخ وحسب، وإنما هو في الأساس محطة للتفكير والاعتبار. غير أن هذا الهدف لن يتحقق ما لم تُنزع الأقنعة وتظهر الحقائق ناصعة بلا جراحات تجميلية، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لبناء سلام إقليمي وعالمي حقيقي. * كاتب وإعلامي تونسي، والنص مقطع من مقدمة كتاب «الطريق إلى سايكس بيكو: الحرب العالمية الأولى بعيون عربية» الذي يُصدرُهُ قريباً «مركز الجزيرة للدراسات» والدار العربية للعلوم - ناشرون» بمشاركة مجموعة من المؤرخين.