«أيقونة النار» هي رواية الكاتب المصري جمال حسني (دار الآداب، 2010). وهذا العنوان الذي يجمع بين مفردتين تنتمي احداهما الى الحقل المعجمي للمقدس، وتنتمي الثانية الى الحقل المعجمي للمدنس، يشكّل مفتاحاً مناسباً لقراءة الرواية وأحداثها التي تترجح بين هذين الحقلين. وترفد هذا الاستنتاج/ المستهل عناوين أخرى فرعية وأسماء أماكن تومئ الى حضور المقدس وصراعه مع المدنس في حياة شخصيات الرواية والعالم المرجعي الذي تحيل اليه؛ فمن بين أحد عشر عنواناً فرعياً، هي عناوين الحكايات الاحدى عشرة التي تتألف منها الرواية، ثمة أكثر من نصف هذه العناوين ينتمي الى الحقل المعجمي الديني/ المسيحي، ناهيك بأسماء الأماكن، بدءاً من اسم القرية التي تدور فيها الأحداث «رزقة الدير المحرق»، في اشارة روائية واضحة الى المساحة التي يشغلها الدين وتعبيراته في حياة العالم المرجعي للرواية. يتناول حسني في روايته الفجوة التي تنجم عن اصطدام المقدس بما هو دين وعادات وتقاليد بالمدنس بما هو رغبات ونوازع، حتى اذا ما كادت الفجوة تبتلع ضحايا الاصطدام، يتدخل التدبير البشري لردمها، وإنقاذ الضحايا من الابتلاع، ورسم النهاية السعيدة للأحداث. وهو يفعل ذلك من خلال حكاية تدور في فضاء قبطي زراعي، في صعيد مصر، يحكيها جدٌّ على مسمع حفيده، ويتناوبان على القيام بدور الراوي في الرواية. فمن جهة، ثمة الحفيد الذي يمارس وظيفة الراوي العليم، يصف الأماكن ويروي بعض الوقائع الخارجية، فيشكل اطاراً خارجياً لفعل الروي. ومن جهة ثانية، ثمة الجد المحتوى من الراوي العليم، يقوم بدور الراوي الفعلي. وهنا، يستخدم الكاتب تقنية تداخل الرواة، مع مفارقة ان الصغير/ الحفيد هو الذي يحتوي الكبير/ الجد، في الشكل. أمّا في الفعل، فإن الجد هو الراوي الأساسي، ما يجعل الرواية نوعاً من حكاية جد لحفيده، وهو ما يتناسب مع تقسيم الكاتب الرواية الى احدى عشرة حكاية متتالية، مترابطة، وغير مستقلة. واذا كان قد اتخذ لكل حكاية عنواناً مستقلاً، فإنّ الأحداث في كل منها ليست مستقلة عمّا قبلها وعمّا بعدها، بل هي امتداد لسابقتها وتميد للاحقة، ما يجعل اطلاق تسمية حكاية على كل عنوان فرعي من قبيل لزوم ما لا يلزم. على أية حال، يشكل مرور الفتاة الجميلة «فل»، قرب الجد والحفيد الذي يدخل في مونولوغ داخلي، يشتهيها فيه ويمنّي النفس بالحصول عليها، مناسبة ليقص الجد حكايتها على حفيده. وفيها: «ان تلك الفتاة التي كانت قبل قليل أمام هيكل الكنيسة تبكي بكاءً شديداً ستحتفل بعد قليل بنجاحها في الكلية، وسيكون في بيت أهلها مهرجان رقص وفرح. وتأتي زيارة الشاب كمال، ابن محروس الطحان، الى مكان الاحتفال ليأخذ أخته سهرة، صديقة فل، بذريعة مختلقة حول مرض والده، لتشكّل فرصة سانحة لرؤية فل الجميلة وقيام استلطاف متبادل بينهما من جهة، ولتشكل فرصة أخرى لوالدتها أفراح، الجميلة بدورها، فتستيقظ داخلها ذكريات جميلة عن حب قديم بينها وبين محروس، والد كمال، حال المقدس بما هو عادات وتقاليد دون أن يؤتي ثماره المرجوّة، وكان نصيبها أن تتزوج من سميح الحبّال، الأهطل، الجلف، لمجرّد كونه صاحب مال». حين تنكشف حيلة الشاب التي تذرّع فيها بمرض أبيه لرؤية الفتاة الجميلة، يعنّفه الأب، لكنه لا يلبث أن يصطنع الأسلوب نفسه، فيدّعي المرض لسبب معلن هو اثبات صدق ابنه بينما السبب الحقيقي هو رغبته في استدراج أفراح، الحبيبة السابقة، لعيادته، وهو ما يحصل بالفعل، ويشكّل بداية استعادة علاقة سابقة بين الطرفين. في سهرة جمعت الأب والابن، في بيت سميح الحبّال، الذي أدارت الخمرة رأسه، فسكر، ونام، وقع المحظور المزدوج، فكان لقاءٌ حميم بين محروس وأفراح جدّدا فيه أواصر الحب القديم، ولقاء حميم آخر بين ولديهما أعادا فيه تاريخ الأهل. غير أن تحوّلاً غير متوقّع، في مسار الأحداث، تمثّل في حمل الابنة، جعل الأحداث تتسارع. تستنجد أفراح بمحروس، حبيبها السابق وعشيقها الحالي، ويتكفّلان معاً تدبير الخروج من المأزق ورسم النهاية السعيدة. وهكذا، تقول الرواية ان اتباع المدنّس بما هو استجابة للرغبات والشهوات الطبيعية، لا بدّ من أن يصطدم بالمقدس بما هو تعاليم دينية وعادات وتقاليد، ما لم تتم تلك الاستجابة في اطار المؤسسات الشرعية كمؤسسة الزواج. لذلك، فإنّ اتباع «الدرب الأعوج» لتحقيق الرغبات الجسدية المشروعة، سيؤدي بطبيعة الحال الى الفضيحة، ما لم تتدخل جهة ثالثة، هي، هنا، أم الفتاة وأبو الشاب لإعادة الأمور الى نصابها وتقويم اعوجاجها، بترتيب الزواج العاجل. وثمة تناسب، هنا، بين اسم الحي الذي تقع فيه الأحداث، وهو «الدرب الأعوج»، وبين الوسيلة التي انزلقت اليها الفتاة والشاب لإشباع الرغبات. واذا كان تدخّل محروس وأفراح جاء في الوقت المناسب وحال دون احتراق الأيقونة بنار الفضيحة، فإنّ هاتين الشخصيتين تمثّلان نموذجاً لديه القدرة على: الخطأ وتصحيحه، والمبادرة، واتخاذ الموقف المناسب في الموقع المناسب، والتمرد على العادات والتقاليد ومن ثم فرض احترامها. بينما تمثّل مريم زوجة محروس وسميح زوج أفراح نموذجاً مختلفاً عن الأول عاجزاً عن الخطأ والتصحيح، يفتقر الى المبادرة والفعل، وهو مغفّل، لا يشعر بما يجري تحته من ماء، وما يدور حوله من أحداث. وبين هذين النموذجين، الفاعل والسلبي، يمثّل الشاب كمال والفتاة فل نموذجاً ثالثاً، يلبّي نداءات الجسد، يشبع رغباته، يرتكب الخطأ ويعجز عن التصحيح بمفرده، ويحتاج الى يد تمتد اليه لتعيده الى جادة الصواب، وهو ما تكفّل القيام به النموذج الأول الفاعل، المبادر، القادر. من خلال هذه النماذج وغيرها، يقول جمال حسني سهولة انزلاق مجتمع ريفي، زراعي، متديّن الى الاصطدام بالمقدس الذي يحيط به من كل حدبٍ وصوب. ويتجسد في أماكن العبادة، وأسماء المكان، وطقوس الدين، والعادات والتقاليد. ويقول امكانية الخروج من هذا الاصطدام، بأقل خسائر ممكنة، اذا أوتي الممسك بزمام الأمور قوة الشخصية، والفطنة، وحسن التدبير، واجتراح المخارج والحلول، كما هي حال أفراح ومحروس. الى ذلك، تحفل الرواية بكمٍّ من الطقوس والعادات والتقاليد والأغنيات والأمثال الشعبية، ما يجعل منها مرآة تعكس ثقافة المرجع الذي تنبثق منه وتحيل اليه. غير أن ثمة خللاً فنياً يشوب الخطاب الروائي لا يمكن القفز فوقه، ويتمثل في أن واقعة مرور فل، الفتاة الجميلة، حصلت على مرأى من الجد والحفيد معاً، أي أن ثمة تزامناً بين زمن الواقعة وزمن السرد. وهذه الواقعة سيكون لها ما بعدها من وقائع وأحداث. فكيف تسنّى للجد/الراوي أن يسرد الأحداث الأخرى التي لمّا تقع بعد، بقرينة التزامن بين حصول الواقعة المذكورة وسردها؟ ثم ألا يُفترض أن تكون حكاية الجد تنتمي الى الماضي البعيد أو المتوسط أو القريب، في الحد الأدنى، كشرط لامتلاكه سلطة السرد، بينما النص يشير الى معاينة الجد والحفيد معاً للأحداث؟ على أية حال، هذا الخلل، على أهميته، لا يحجب جوانب أخرى ايجابية في الرواية جرت الاشارة الى بعضها.