لم تسقط حكومة رئيس الوزراء المغربي عباس الفاسي، ولم تفلح في استيعاب الانتقادات الموجهة ضدها. لكنها تركت الانطباع بأن لا بديل من استمرارها الى نهاية الولاية، أقله من أجل صون المنهجية الديموقراطية، في انتظار استحقاقات 2012. ومع ان الجدل الذي أثير في منتصف ولايتها ارتدى طابعاً تصعيدياً من طرف بعض فصائل المعارضة، فإنه لم يصل الى درجة طلب سحب الثقة منها. كان الأمر أشبه بمباراة ودية لا تصنف في خانة المنافسات الحاسمة. فكل فريق كان يعرف المدى الذي يستطيعه، في ظل نتائج محسومة سياسياًَ، أقربها ان وحدة المعارضة التي قادت احزاب "الكتلة الديموقراطية" الى تولي دفة الحكم في عام 1998 تبدو غائبة هذه المرة، ومن غير الوارد حدوث اتفاق بين فصيليها الرئيسين "العدالة والتنمية" الإسلامي و "الأصالة والمعاصرة" الذي استقطب شتات أحزاب يمينية ويسارية تحت مظلة المعارضة. فصعوبة ابرام تحالف بين عباس الفاسي و "الأصالة والمعاصرة" مدد في عمر حكومته، فيما أبدت مكونات الغالبية انفتاحاً أكبر على فاعليات المعارضة، لكن بحساب حشد التأييد لمشروع الإصلاحات السياسية التي تلتقي عندها الإرادات وتختلف التأويلات، فالمسافة التي يلتزمها كل طرف حيال مضمون وأبعاد الإصلاحات ليست واحدة. فثمة من يريدها للعودة الى نظام الاقتراع الفردي الذي يزيد من فرص الأشخاص أكثر من الأحزاب، ضمن اتفاق جماعي على حظر الترشيح لمجلس النواب لغير المنتسبين حزبياً. وهناك من يريد الحد مما يعرف بظاهرة "الترحال السياسي" التي تطاول تغيير المنتمين ولاءاتهم الحزبية بعد الفوز. وقد يكون هناك من يريدها ورقة للمعاودة الى ترسيخ فكرة حظر الأحزاب التي تستند الى مرجعيات دينية أو عرقية أو قبلية. لكن الأهم ان ما يجمع على الاتفاق على ضروراتها سيكون ذاته من يغرق في المنافسات القادمة، والتي يبدو ان الأطراف كافة شرعت في خوضها قبل أوانها. أمام تزايد شعور النخب السياسية بان صراعاتها التي قد تذهب بعيداً، يمكن أن تفيد دعاة تشكيل حكومة تكنوقراطية يعهد اليها بتصريف الشأن العام الى حين تنظيم انتخابات 2012 يسود اعتقاد بأن تفاهم السياسيين أفضل من صراعاتهم. بيد أن الضعف الذي اعترى فاعليات مثل الاتحاد الاشتراكي وتجمع الأحرار اللذين يشاركان في الحكومة أبقى بصورة أو بأخرى على ريادة حزب الاستقلال الذي يتزعمه الفاسي، ولم يعرف أي تصدع داخلي، على رغم ان أشد الانتقادات وجهت الى وزراء الاستقلال أثناء مناقشة التصريح الحكومي. وبدت حالات الضعف هماً مشتركاً بين أحزاب المعارضة والموالاة، فلا الغالبية مرتاحة الى أداء الحكومة ولا المعارضة قادرة على إطاحتها في غضون افتقاد التوازن. تبدو الظاهرة جديدة على المشهد السياسي في المغرب، فمنذ دخوله منعطف التناوب في نهاية تسعينات القرن الماضي، خلت صفوف المعارضة من منافسين أشداء، وان كان الحزب الإسلامي "العدالة والتنمية" حقق مكاسب سياسية لافتة في الاستحقاقات الانتخابية، إلا أنه ظل يجر وراءه تداعيات الهجمات الانتحارية لعام 2003 في الدارالبيضاء، من منطلق توجيه سهام الانتقاد الى فرضيات تحريض التيارات الإسلامية على العنف. مع انه كان سباقاً، ناهيك عن ان هناك استحقاقات لا تقل أهمية، تكمن في بلورة وتنفيذ النظام الجهوي الذي يمنح صلاحيات أوسع في تدبير الشؤون المحلية. ما يعني دخول البلاد مرحلة جديدة تسهم بالضرورة في حدوث انقلاب في الأدوار والمرجعيات، كونها تنقل الصراع من بُرجه السياسي الى تقلبات الواقع الاقتصادي والاجتماعي في ساحة الميدان. هل ستكون النخب السياسية في المغرب مؤهلة لتغيير بهذه الدرجة من التحول، أم ستبقى الأدبيات السياسية تفرقها في ضوء تزايد طموحات الناخبين في ان يروا الخيار الديموقراطي ينعكس ثماراً في تغيير الواقع. انه سؤال ما بعد اجتياز حكومة الفاسي امتحان نصف ولايتها.