مع تفاقم أزمة المعلمين في فلسطين، بات يصعب الغوص في كثير من التفاصيل المتعلقة بها، بخاصة أنها متلاحقة ومتشعّبة. فمنذ قرابة نصف شهر، والإضراب الذي يخوضه المعلمون يتصاعد حتى وصل أخيراً إلى إضراب شامل في المدارس الحكومية. ويشعر المعلمون بأنهم الأقل حظاً في سلم الرواتب والعلاوات المرتبطة به، وغير ذلك من التدرجات الوظيفية، بالقياس مع غيرهم من الموظفين الحكوميين، وهم لا يطلبون إلا «المساواة والكرامة». وكان المعلمون، عبر اتحادهم، وقعوا اتفاقاً مع الحكومة الفلسطينية قبل ثلاثة أعوام، عقب إضراب مشابه، اشتمل على التعهد بزيادة رواتبهم بنسبة 10 في المئة، إلا أن النسبة التي تمت زيادتها فعلياً لم تتجاوز نصف المتفق عليه، على أن يتم تسديد النصف الثاني لاحقاً. وجاءت الصدمة عندما بلغت الزيادة الأخيرة 1,5 في المئة فقط، أعادت الحكومة رفعها الى 2,5 بعد الاحتجاجات الأخيرة، في وقت بلغت زيادات رواتب مديرين عامين وموظفين حكوميين في وزارات أخرى، أضعافاً مضاعفة، ما أعاد الوضع إلى المربع الأول. زادت الطين بلّة الطريقة التي تعاطت فيها الحكومة الفلسطينية مع المطالب، حتى بلغ الأمر ذروته الثلثاء الماضي، حين نصبت الأجهزة الأمنية الفلسطينية حواجز عسكرية على مداخل مدينتي رام الله والبيرة، ومخارج المدن الأخرى، للحؤول دون وصول المعلمين إلى حيث «الاعتصام الحاشد»، الذي كان مقرراً أمام مبنى مجلس الوزراء الفلسطيني في مدينة رام الله. لكن، وعلى رغم كل هذه الإجراءات، فإن آلاف المعلمين والمعلمات شاركوا في الاعتصام الذي دعت إليه منابر المعلمين عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. وتجمّع المتظاهرون عند ميدان محمود درويش، على مقربة من مقر رئيس الوزراء ووزارة الداخلية الفلسطينية، بعدما حالت حواجز الأجهزة الأمنية الفلسطينية دون وصولهم إلى مبنى رئاسة الوزراء، حيث الاجتماع الأسبوعي للحكومة. ورفع المشاركون لافتات عدة، من بينها «كرامة المعلم من كرامة الوطن»، وأخرى موجّهة الى عناصر الأجهزة الأمنية مثل «كرامتنا من كرامتكم»، فيما ذهبت لافتات أخرى لتسلِّط الضوء على الإجراءات الأمنية المشدّدة من نصب للحواجز العسكرية، واستدعاء عدد من ممثلي المعلمين، وقيام بعض الأجهزة الأمنية بالطلب من بعض شركات النقل عدم نقل معلمين إلى رام الله، وسحب هويات بعض السائقين، وفق شهود عيان وبيانات عن مؤسسات حقوقية كالهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (ديوان المظالم). ومن بين هذه اللافتات، تلك التي رفعها أحد المعلمين كتب فيها «أسفي على من كنت له معلماً، وأصبح لي سجّاناً!». وشدّد ممثلو المعلمين ممن تحدثوا في الاعتصام، على أن تحركاتهم مطلبية بحت وليست سياسية، ولن تكون، وأنهم ورجال الأمن في خندق واحد من أجل رفعة الوطن والمواطن، معبّرين عن أسفهم لنصب حواجز عسكرية تستهدف أساتذة يناضلون الى جانب طلابهم ضد الاحتلال الذي «يستهدف الجميع». وطالب المتظاهرون رئيس الوزراء الفلسطيني بالتحدث إليهم، وهو ما لم يحدث، فأكدوا الاستمرار في الإضراب المفتوح. وقالت الهيئة المستقلّة لحقوق الإنسان، إنها بعثت برسالة عاجلة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، تطالبه فيها بالتدخل لحل الأزمة، وتدعوه «الى إصدار تعليماته لوقف الإجراءات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية، والتي من شأنها أن تعيق العمل النقابي وتقيّد حق المواطنين في التعبير عن آرائهم وحقّهم في التجمع السلمي». وطلب الائتلاف من أجل النزاهة والمساواة (أمان)، في تقرير، من الرئيس الفلسطيني محمود عباس التدخّل لحل الأزمة، وقال: «الائتلاف وحفاظاً على السلم الأهلي وإنصافاً للمعلمين وإعادة انتظام الدراسة، يوصي سيادة الرئيس بأن يتم اقتطاع قيمة تكلفة الاتفاق مع المعلمين من صندوق الاستثمار الفلسطيني، الذي أُنشئ بالأساس لحل مشاكل الأيام السوداء وعثراتها، والتي يبدو أن اليوم أحدها». وصدر العديد من البيانات الحقوقية المنتقدة تصرفات عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وجاء في بيان الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (ديوان المظالم): تتابع الهيئة وتوثّق الإجراءات التي قامت بها الأجهزة الأمنية، من خلال نصب حواجز في أماكن مختلفة في مدن الضفة الغربية، بخاصة على مداخل مدينة رام الله، بهدف منع المعلمين من الوصول إلى مقر مجلس الوزراء لتنفيذ اعتصام أمامه، كما وثقت حالات استدعاء من جانب الأجهزة الأمنية لعدد من ممثلي المعلمين، وقيام بعض الأجهزة الأمنية بالطلب من بعض شركات النقل عدم نقل معلمين إلى رام الله، وسحب هويات بعض السائقين». ودعت الحكومة الفلسطينية «المعلمين الى العودة الجادة والمسؤولة الى العمل وإكمال رسالتهم لخدمة أبنائنا الطلبة، مجددة تأكيد التزامها بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه مع اتحاد المعلمين»، وهو ما رفضه ممثلو المعلمين في الميدان، الذين أعلنوا أن اتحاد المعلمين الفلسطينيين لم يعد يمثّلهم. وما بين التعليقات الجادة وتلك الساخرة، حفلت مواقع التواصل الاجتماعي، بخاصة «فايسبوك»، بتعليقات خبراء في القانون وإعلاميين ومثقفين، حول الإجراءات الأمنية لمنع المعلمين من حقّهم في الاعتصام السلمي بمدينة رام الله، فيما انتشرت رسوم كاريكاتورية ساخرة ونكات من وحي الحدث. وكتب المحامي والقاضي السابق داود درعاوي، على صفحته في «فايسبوك»: منع المعلمين من الوصول إلى رام الله للاحتجاج أمام مجلس الوزراء، واستخدام القوى الأمنية لهذه الغاية، يمثلان اعتداءً على حقهم الدستوري في التنقل وفقاً لنص المادة 20 من القانون الأساسي، واعتداء على حقهم في التجمّع وفقاً لنص المادة 26، وهو بمثابة جريمة اعتداء على الحريات الشخصية لا تسقط بالتقادم. أدت الوسائل الأمنية في التعامل مع مطالب المعلمين الى تأجيج الأزمة، واستخدام فزاعة التسييس لهذه المطالب من الحكومة هو استخدام مفرغ من مضمونه ويضرب عميقاً في بنى النسيج الاجتماعي الفلسطيني». أما القاص زياد خداش، فكتب على صفحته: «تذكر عزيزي رجل الأمن الفلسطيني، أن هؤلاء هم الذين جنّبوك فضائح الأخطاء الإملائية في كتابة كلمة فلسطين على جدران المدن في انتفاضاتها المتعاقبة». وكتب الشاعر غسان زقطان: «التخبط وسوء الإدارة والارتجال وعدم المسؤولية في التعامل مع احتجاج المعلمين، يشير بوضوح الى عزلة أصحاب القرار عن هموم الشارع وحاجات الناس وأحوالهم». وطالب زقطان وزير التربية والتعليم العالي ب «الخروج عن صمته وإدانة السياسة الأمنية وقمع المعلّمين، والوقوف الى جانبهم بعد أن خذلهم الاتحاد، وليس الخروج من الوزارة». ومع استمرار الأزمة، أطلق المعلمون هاشتاغ (#مستمرون)، فيما أطلق العديد من الفلسطينيين عبر «فايسبوك»، تعليقات غاضبة إزاء الإجراءات الأمنية، وأخرى ساخرة اختزلها الفنان محمد سباعنة برسم كاريكاتوري ساخر وموجع يصوِّر فيه شرطياً فلسطينياً يلقي القبض على سائق سيارة عمومية بتهمة «تهريب معلمين»!.