لئن كان لكلّ مقام مقال فإن لكلّ قصيدة لغتها. هذا ما يشي به - على الأقل- الديوان الجديد للشاعرة الإماراتية ميسون صقر القاسمي «أرملة قاطع طريق» الصادر حديثاً في طبعة جديدة ومنقحة عن دار ميريت (القاهرة)، حيث تنوّع الشاعرة لغتها بين قصيدة وأخرى، مستندةً في ذلك إلى الوفاء لمضمون القصيدة أو موضوعها، وهو الأمر الذي يدلّ على نضجٍ ومراس في كتابة الشّعر. إذ من الواضح أن ميسون القاسمي لا تتكئ على السائد في الشعر غير الموزون (قصيدة النثر)، من قصائد تدور حول «الذات» وشؤونها وشجونها من دون مبرّر أحياناً وكيفما اتفق أحياناً أخرى. صحيح إن القاسمي تستعمل ضمير الأنا، وتخبر في القسم الأوّل من ديوانها المعنون «آخر قطرة في الكأس» قصّتها الشخصية، بل إنها لا تتردّد في إيراد اسمها ونسبها الصريحين في أكثر من قصيدة، لكنّها تنجح في ربط الخاصّ بالعامّ بطريقة رقيقة وذكية ولبقة، وهي طريقة تقوم على «تصفية» القول إن جاز التعبير، كأنّ تأخذه بعيداً منها وتغربّه عنها، ولا تحتفظّ منه إلا بما يوحد بين حالتها /قصّتها وحال أخريات مثلها، يدركن الشعور بالظلم، وربما لا يُجدن مثلها التعبير عنه بهذه الحساسيّة الفائقة. لا تفقدالقصيدة شيئاً من ألقها إذا أغفلنا الاسم والنسب الصريحين. وتجيد ميسون لعبة النسب هذه، فهي لا تتمرّد على العائلة بل تتمرّد بها عبر اختيارات دقيقة، تجمع بين صورتين: صورة الشاعرة وكتبها، وصورة ميسون وعائلتها، ففي قصيدة «ليس بهذه الطريقة» التي ترسم العلاقة بين المجاز والحقيقة وما بينهما؛ حيث الكتاب/ الشّعر في جهة، والعائلة في جهة مقابلة، أمّا الموت، كقرين للولادة تارةً وقرينٍ لنفسه تارةً أخرى، فواقعٌ في منتصف المسافة بينهما وكأنّه الاستعارة المتقلّبة التأويل: «لن أموت الآن/ هذا هو الكتاب الأوّل لي/... لن أموت/ هذا هو الكتاب الثاني». فهذه استعارةٌ تربط بين صورة الشاعرة التي تكتب، وصورة ميسون التي تنتسب إلى جدّتها فأمّها، ومن ثمّ إلى أخيها فأبيها: «ستنبتُ زهرةٌ بدلاً عن ذبول جدّتي/... ستنمو شجرة «التشيكو» في حديقة أمّي/... هذا الكتاب سيطبع لانتعاش فكرة الطريق/ التي أكلت لحم أخي حياً/... هذا الكتاب حلو المذاق أكثر من السكّر الذي داهم حلاوة أبي/ فذهب النمل إلى المقبرة».وفي الجملة تنجح القاسمي في وصف معاناتها الشخصيّة من زاوية غير شخصيّة، إذ تفصل بين الكتابة وابنة العائلة، لأنّها تدرك أن «التمرّد» أو «الجرأة» الشعريين لا يقعان في مقام الإشهار الفجّ ولا القصّ المباشر، بل في مقام آخر، وافر الحريّة والكرم وقريبٍ من «أنا» القارئ : «أتخلّص من الكوابيس كلّ ليلة/ بخلق عائلةٍ أخرى/ ومحبّين آخرين/ وأوطان عديدة تبدأ من بقعةٍ صغيرة في أقصى الأرض/ وتنتهي إليها/ المقبرة». هذا الصوت يقعُ في مقامٍ دقيقٍ بين الشخصي والعامّ، ويتمّ من خلاله التماهي بين «أنا» الشاعرة و «أنا» القارئ. ولعلّ رفعة إحساس القاسمي نزّهتها عن انزلاق قصائدها الخاصّة بموت أفراد عائلتها، واحداً تلو الآخر، نحو فخّ الرثاء، إذ إن هذا الأخير قد يطرد بسهولة ويسرٍ «أنا» القارئ، ويميلُ بالقصيدة نحو عاطفيةٍ زائدة من شأنها إخفاء اللغة الشعريّة المرهفة التي تكتبها ميسون القاسمي: «لكنني أحاول إيقادَ جذوة اللغة في لسان الحال» أو «مَنْ لنا/ من كلّ ليلٍ/ إلى كلّ يوم/ نصحو/ ونغرّد/ غيره، الشّعرُ/ يناولنا صوتنا/ فننامُ فيه... ونصيبُ بعض أحزاننا/ بسهام اللغة». درجات اللغة تجيدُ ميسون التنقّل بين درجات اللغة الشعريّة، وهو ما يظهرُ من خلال أجواء قصائدها المتنوعة. ففي قصيدة «أنا وحدي القطة هنا»، يأتي المطلع منسجماً مع مكر العينين: «ماذا أقول في الخيمة/ وأنا بعينين غاويتين؟»، ثمّ متفلّتاً من رجعٍ «أنثويّ مغويّ»: «أنا التي تموء قصيدتها/ عند أقدام الشِّعر»، لأن المقام ليس للأنثى بل للشاعرة التي ترصف كلماتها بتأنٍ واضحٍ، وتجمع بين الكحل والقلم والانتقام: «أقعدُ وأكتحل بالإثمد/.. هكذا حين أثقبُ الورقة/ بسنّ القلم/ وأنا أسنّ المروَد في عيني/ بالإثمد أحدثّ نفسي:/ سيدخل الخنجر قلبَه/ سينفجر دمي في وجهه/ سأشربه في صحةِ الانتقام/ أفتح عيني المكتحلتين وأقول:/ سأتعلّم الشّر/ أتعلم كيف أكون أرملة قاطع طريق». وممّا لا شك فيه، إن هذه القصيدة تبطنُ قصّة ما، شأنها شأن قصائد كثيرة في الديوان يغلب عليها طابع السرد، إذ يبدو أن ميسون القاسمي تصوّب سهام قصيدتها نحو الحدّ الفاصل بين النثر وقصيدة النثر، وهي تنسجم في ذلك مع شعراء آخرين فعلوا الأمر عينه كعقل العويط في «إنجيل شخصي»، وأمجد ناصر في «الحياة كسردٍ متقطّع» وعبّاس بيضون في «ب ب ب» مثلاً. وربما كان الدافع وراء هذا الاتجاه الآخذ في الصعود حالياً، هو الرغبة في التحرّر من بؤرة «الذات» وشجونها الخاصّة، عبر تبريد «أنا» الشاعر وتحييدها والتخفّف من وطأة «النرجسيّة» التي تقف بالمرصاد حال انساق الشاعر وراء الكلام عن نفسه. وربما كان الدافع إلى المزج بين النثر وقصيدة النثر أمراً آخر، يتعلّق مثلاً بزجِ القصيدة في ما هو أرحب وأوسع، والأهمّ، في ما هو أقلّ انعزالاً ونرجسيّة، وأكثر اقتراباً لا من اليومي بمعناه المبتذل والمطروق كيفما اتفق، بل بما هو هامشيّ وجوهريّ في آن واحد، كشأنٍ صغير لكنّه يحمل في طياته شؤون الآخرين. وضمن هذا المنظور نقرأ في «أرملة قاطع طريق» قصيدة عن حادثة مؤلمة هي حريق مسرح في مدينة بني سويف: «أنصتُ/ أسحبُ الروح إلى الوجع/... هل ينبّهني أحدٌ أن اليوم لم يأتِ/ وأنك لم تخبرني/ بحريق ستين فناناً/ هل أبكي وأنا أمثل أدواراً/ في مسرحياتهم؟/ المسرح بيتٌ لا قصيد فيه». وإذ يتسرّب النثر إلى قصيدتها ليسردَ الحادثة، يتدخل الشّعر ليفتح أفقاً شبه سحريّ، متقلّب التأويل: «لا أملك سوى الحريق وكنت لا أنتظره»، ثم يتجه نحو العنفوان، فابنة المكانين (الإمارات ومصر) تعشق السكنى هنا. المكان والمنفى لكن الحنين إلى المكان الأوّل (الإمارات) يطرد المنفى والذكريات، إذ إن ميسون القاسمي لا تشرب من ماء غيرها، ولعلّها رسمت في أكثر من قصيدة صورةً باهرةً للمكان الأوّل، المليء بالصيادين واللآلئ والسفن والقهوة: «الصحراء مظلمةٌ إلا من صهيلِ الخيل/ وحركة الجمال/ النارُ الموقدة تشعلُ أشباحاً/ القهوةُ تفور فوق الجمرات/... دخان الأخشاب يشعل أشباحاً/ كي يتغيّر شيء ما مثل الأسماء/ لم تتغير جلستهم منذ دهور/ الخيمة صامتة/ وقبائل تذهب ثم تعود/ وقبائل تمور في الصحراء/ والسفن في البحار حاربت الأعداء/ ولم تجلب لؤلؤاً بل عبيداً يصنعون القهوة». ومن خلالِ سردٍ يموج بين النثر والشعر تقبض ميسون على مكانها الأوّل، وتخفي دقّة تصويرها ومعانيها ببراعة: «فسقطَ آل ياسر بعد تعذيبٍ في الموت/ صبراً آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة/ وفي المركب/ الربّان يصلّي ويهتدي بالنجم،/ الصيادُ يغوص يصطادُ المحار/ ... الجاسوس الذي ركب من «كلكتا»/ اصطحبوه، فكتب سيرتهم/ وبلّ القلم في ماء البحر»، هذا الجزء المستلّ من قصيدة «رحلات الشرق» يخبّر عن البلاد وأهل البلاد الذين كانوا يهتدون بالنجوم في رحلاتهم البحرية، تعينهم في ذلك منظومات خاصّة بعلم الفلك والنجوم، يحفظون القصيدة عن ظهر قلب فيصلوا إلى غايتهم آمنين، وغافلين ربما، عمّن كتبَ سيرتهم على هواه، بعيداً منهم. تتفرّد ميسون القاسمي بتدرّجات لغتها الشعريّة، تتلونُ وفقاً لدقّة مشاعرها ورهافتها، ولحساسيّتها العاليّة، تلتقط مّما حولها وتضيء شمعةً / قصيدةً لمريم العذراء: «في الأيقونة/ مريم تلبس ثوباً أخضر/ في المرآة/ تنعكس الصورةُ في عيني/ ألبس ثوباً لماريا/ أجعلُ مرآتي أيقونةً/ في المحراب أصلّي/ في المرآب، وفي صحن المسجد/ في صورةٍ على صندوق ميت/ في صورة القديسين والأصحاب/ بقايا من ألمٍ/ يجعلني أصلّي...». وتنيرُ صورةً لشاعرةٍ متخفّفةٍ من زوائد القول، تعرف أين هو لؤلؤ الشعر، وأين هي الحدود الواهية بين «أنا» الشاعر و «أنا» القارئ: «أنا لم أكن ذاتي يوماً/ أنا لم أسمَّ من قبل/ لكنني هرعتُ إلى جسدي وأسميته/ هرعتُ إلى نفسي وكنّيتها/ هرعتُ إليّ ولم أجد/ انفصمتُ وتناثرتُ/... وعلى حافة الهلاك قلتُ/ أنقذيني يا أنا...». وتعرف أكثر من هذا، تعرف كيف تأسرُ النقد.