تعقيدات المشهد السياسي العراقي الذي يمر بأشد المراحل صعوبة أصبحت معروفة، عقب إعلان نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة. فلقد أفرزت هذه الانتخابات كتلتين كبيرتين هما: ائتلاف العراقية برئاسة الدكتور أياد علاوي وائتلاف دولة القانون برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي، حيث تقدمت الأولى على ائتلاف المالكي بمقعدين، ما أثار جدلاً حول أحقية تشكيل الحكومة المقبلة، استناداً إلى نص دستوري مفاده «أن الكتلة الحائزة على غالبية الأصوات هي التي يعهد إليها تشكيل الحكومة». وأخذ هذا الجدل ينحو باتجاه خطير عندما بدأ الائتلافان بالتراشق اللفظي عبر وسائل الإعلام، حيث اتهم المالكي ضمنياً ائتلاف العراقية بترغيبه تارة وترهيبه تارة أخرى بقصف المنطقة الخضراء إذا لم يرضخ لمطالبها، ولا ننسى أيضاً اتهام المتحدث باسم «العراقية» حيد الملا لمكتب المالكي بتهديده عبر الهاتف بالقتل بسبب تصريحات له لإحدى وسائل الإعلام حول مسألة تدويل الخلاف الحالي وكيف جاء التدخل الخارجي بالمالكي على رأس الحكومة. ويبدو أن الكتل السياسية في البلاد لا تجيد سوى لغة التهديد والوعيد من دون الاحتكام إلى المنطق والعقل والدستور في حل القضايا الخلافية، مقارنة مع الدول التي تحكم ولو بشيء من الديموقراطية، مثل الأردن، كون العراق تبنى النظام البرلماني في الحكم، حيث نجد أنه عندما تتأزم الأمور تأتي الإرادة الملكية لتنهي الخلافات بين القوى السياسية، والأمر ينطبق كذلك على الكويت، عندما أقدم أميرها ولمرات عدة على حل البرلمان ودعا إلى انتخابات مبكرة، لأن الدستور الكويتي يخوله ذلك. أما في العراق، وعلى رغم وجود دستور دائم يمكن الرجوع إليه لحل الخلافات، إلا أنه يظهر في بنود هذا الدستور العديد من الأمور التي تحتمل أكثر من تفسير كالذي يحدث اليوم حول أحقية الكتلة الفائزة في الانتخابات التشريعية بتشكيل الحكومة. ويمكن تشخيص أمرين مهمين يفتقر إليهما العراق، وربما لو كانا موجودين لجنّبا البلاد الكثير من الأزمات وهما: - غياب دستور مكتمل في العراق، بحسب شخصيات سياسية عراقية من ضمنها المالكي نفسه عندما حض على مراجعة الدستور والعملية السياسية وفق الأسس الوطنية، مبيناً أن «الدستور الحالي أدى دوراً في مرحلة صعبة مر فيها العراق ولكنه يحتاج إلى مراجعة وتعديل من خلال القواعد الدستورية». - عدم وجود شخصية تحظى بإجماع كل العراقيين ويكون رأيها هو الفصل في القضايا الخلافية، كما الحال في الكويت والأردن وحتى في إيران التي تتبنى مبدأ ولاية الفقيه، وهنا لا يمكن إغفال دور المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني وآرائه، إلا أن هذه الآراء قد لا تكون ملزمة للقوى السياسية التي لا تتبع لا هي ولا قواعدها الشعبية مرجعية السيستاني، فتبقى المشكلة قائمة من دون حل. ولو ابتعدنا عن المرجعية الدينية قليلاً، نجد في شخص الرئيس جلال طالباني كل المقومات التي تؤهله ليكون الشخصية التي تستأنس الكتل السياسية بآرائها حيث وصفه السيستاني ب «صمام الأمان» للعراق، ولكن هذا أيضاً يصطدم بعقبة الدستور، حيث لا يحق للرئيس أن يشغل المنصب لأكثر من دورتين انتخابيتين، كما أن صلاحيات الرئيس، وبحسب الدستور أيضاً، محدودة جداً، وآراؤه غير ملزمة. ومع وجود مؤسسات ديموقراطية في البلاد كمجلس النواب وهيئات قد لا تكون دستورية مثل المجلس السياسي للأمن الوطني، إلا أن الأمل يبقى معقوداً في تعديل الدستور بطريقة لا تدع مجالاً للكثير من التأويلات، وإلى ضرورة توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية بالشكل الذي يضمن له التدخل في الوقت المناسب لإيجاد الحلول اللازمة للخروج من الأزمات، أو بروز مؤسسات دستورية تسد فراغ الشخصية التي تحظى باحترام كامل الشارع العراقي والكتل السياسية وتتمتع بالحصانة بحيث يمكن الرجوع إليها في المسائل الخلافية التي يصعب على مجلس النواب حلها