تتداخل هواجس اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات مع توجساتهم حين تتعرض التقديمات التي يحصلون عليها من وكالة «غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين»(أونروا) إلى تقلصات نتيجة سياسة التقشف التي تتبعها الوكالة بسبب أزمتها المالية. وبلغت الأزمة أوجها قبل أشهر وتمظهرت خلال الأسابيع الماضية ولا تزال في شكل فاقع في لبنان الذي يستضيف حوالى 280 ألف لاجئ حالياً (بحسب إحصاءات فلسطينية «غير مضخمة»)، إضافة إلى عدد آخر «غير منفوخ» للنازحين من اللاجئين السوريين إلى لبنان لا يتجاوز 35 ألف لاجئ، بحسب وزارة الداخلية اللبنانية. فاللاجئ الفلسطيني اعتاد منذ إنشاء «أونروا» قبل 66 سنة بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، على تلقي خدمات مجانية من الوكالة في مجالات التعليم والصحة والإغاثة والتوظيف والنظافة وتأهيل البنى التحتية والمساكن وغيرها نتيجة قناعة راسخة بأن هذه الوكالة هي «التزام دولي تجاه قضية اللاجئين»، لذلك فإن أي اهتزاز تتعرض له يعني بالنسبة إلى اللاجئ «التعرض للقضية نفسها والتنصل من هذا الالتزام». غير أن هذا الالتزام الذي توارثته أجيال القضية، جعل شعباً مطروداً من بلده يربط حياته بالإعاشة، فكيف إذا كان هذا الشعب اللاجئ ممنوعاً من العمل والتملك وبناء المسكن وليست لديه ضمانات صحية ولا تعليمية في البلد المضيف لبنان، ما دفع مئات اللاجئين للنزول إلى الشارع أخيراً لرفع الصوت عالياً. قال أحد المحتجين: «بان كي مون يأكل الجراد (إشارة إلى أصله الآسيوي حيث بعض الحشرات تدخل في النظام الغذائي لبعض الدول الآسيوية) لا تفرق معه ماذا نأكل»، ورفع آخر لافتة في وجه مكاتب وكالة «أونروا» كتب عليها «سنموت على أبوابكم قبل أبواب المستشفيات»، وصرخ شاب «يا وكالة الحرامية»، ووجهت أرملة الاتهام بأنها «مؤامرة صهيونية»، وأكد مسن أن الوكالة اسمها «غوث الفلسطينيين فإذا لم تفعل فليسكروها»، وهتف المئات: «بدنا نرجع إلى فلسطين». ليست الأزمة الأولى التي تتعرض لها «أونروا». فمسلسل تراجع خدماتها يربطه الفلسطينيون بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982، ثم باتفاق أوسلو عام 1993 وصولاً إلى اتخاذ المفوض العام للوكالة بيير كرينبول قرارات جديدة في أيار (مايو) الماضي، تمس جوهر عمل الوكالة بسبب عجز مالي في موازنة «أونروا» يزيد على ما مجموعه 106 ملايين دولار. وإزاء هذه الأزمة يجد اللاجئون الفلسطينيون أنفسهم أيتاماً ومتروكين لمصير يجهلون تداعياته. وهم على إجادتهم الدفاع عن أنفسهم بالبيانات والندوات والمقابلات مع المسؤولين اللبنانيين، يعلمون أن أزمات عربية مستجدة تأكل من أموال المانحين لإغاثتهم ومن اهتمام العالم بقضيتهم. ويتمسكون ب»المؤامرة» لتعليق كل ما يصيبهم على شماعتها. ماذا خسر اللاجئون؟ وقرارات «أونروا» الأخيرة لخصها المتضررون بأنها «إعلان قتل على البطيء». وكان فيصل محمد موح (50 سنة)، أثناء نقله من مستشفى «بلسم» التابع للهلال الأحمر الفلسطيني الذي يفتقر إلى المعدات والتجهيزات إلى أحد مستشفيات صور، فارق الحياة قبل وصوله إليها. ويقول عضو المكتب السياسي ل «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» ومسؤولها في لبنان علي فيصل، وهو من أبرز الناشطين «لإقرار الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني في لبنان»، إن «ما فاقم الأزمة الأخيرة التقليصات التي أصابت قطاع الصحة، إذ بات على المريض الفلسطيني أن يشارك في تكاليف استشفائه بنسب مختلفة بحسب المستشفى الذي يعالج فيه إن كان للهلال الأحمر الفلسطيني أو المستشفى الحكومي أو المستشفى الخاص، وجرى خفض سقف التغطية المالية من 8 آلاف دولار إلى 5 آلاف، وفي مجال الإغاثة التموينية استبدلت المواد التموينية ببطاقة ائتمان تتراوح قيمتها بين 20 و30 دولاراً وهناك اتجاه حالياً كما نمي إلينا إلى إلغاء المرحلة الثانوية في مدارس «أونروا» بعدما حشروا 50 تلميذاً في الصف الواحد في تدبير سابق، وأوقفوا بدلات الإيجار للفلسطينيين النازحين من مخيمات سورية إلى لبنان، وألغوا خطة الطوارئ التي كانت تشمل اللاجئين في مخيم نهر البادر بعد تدميره في الاشتباكات التي حصلت مع الجيش اللبناني عام 2007، وأبلغوا الأهالي أن الوكالة تؤسس البناء (على العظم) وعلى سكانه إكماله». ومن تداعيات إجراءات كهذه، بحسب فيصل، «عجز الفلسطيني عن الاستشفاء وعن الحصول على المواد التموينية إذا ما ارتفع سعرها وباتت البطاقة لا تغطي نصف ثمن المواد، وإلغاء عمل عشرات الباحثين الاجتماعيين وموزعي الإعاشة، علماً أن من يحصل على الإعاشة مصنف في حال «الفقر المدقع»، إلى جانب تخريج طلاب جهلة نتيجة حشر الطلاب في الصفوف وإلغاء وظائف في قطاع التعليم». ويستغرب فيصل كل هذه الإجراءات «علماً أن موازنة «أونروا» المخصصة للاستشفاء في لبنان لا تزيد على عشرة ملايين دولار وبقيت على حالها على رغم التزايد السكاني وارتفاع كلفة الفاتورة الصحية»، معتبراً أن «في هذه الإجراءات استهدافاً سياسياً بحق اللاجئين في العودة». «أونروا ترشد موازنتها» لا تقدم «أونروا» في لبنان وضعها على أنه أفضل مع ترشيد الموازنة لتلافي العجز، بل تؤكد بلسان مديرها العام في لبنان ماتياس شمالي «أن وضع اللاجئين الفلسطينيين هش في ظل تفاقم أزمات المنطقة»، معتبراً أن مؤتمر لندن اختبار ل»المانحين ونأمل بأن تكون التبرعات سخية». وأمام الوكالة تحد طارئ اسمه النازحون من اللاجئين الفلسطينيين داخل سورية وخارجها. ويشير المفوض العام كرينبول إلى «أن 95 في المئة من الفلسطينيين في سورية يعتمدون على مساعدة «أونروا» ويعد دعمنا في غالب الأحيان الخط الفاصل ما بين الحياة والموت». ويحذر كرينبول في كل مناسبة من أن «العواقب الإنسانية المترتبة على التقاعس آخذة بالازدياد في شكل مضطرد، وأن عزلة واستبعاد وحرمان لاجئي فلسطين في سورية وغزة والضفة الغربية والأردن ولبنان تمثل قنبلة موقوتة بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط». دور لبنان سبب تفجر أزمة «أونروا» في لبنان تحديداً، مرده أن الدول الأخرى المضيفة للاجئين الفلسطينيين تشارك في تحمل الأعباء (سورية والأردن) على عكس لبنان، الذي بعد جهد مضن سمح للاجئين بالعمل في ثلاث مجالات: الزراعة والبناء والنظافة». وحين نقل وفد فلسطيني يمثل كل الفصائل إلى وزير العمل سجعان قزي منذ فترة قصيرة أن ثمة فتيات تفوقن في الجامعة الأميركية في بيروت في مجال التمريض والمطلوب السماح لهن بالعمل في لبنان، قوبل طلبهم بالرفض. لذا فإن الفلسطينيين يطلقون على الوظائف التي يعملون فيها تسمية «وظائف سوداء» فهم معرضون للابتزاز والطرد وكل أنواع التعسف في غياب إجراءات الحماية اللبنانية لهم. ينطلق لبنان من مبدأ أنه «ليس بلد لجوء»، ويشدد على أن «أونروا» المسؤولة الوحيدة عن اللاجئين الفلسطينيين. ويقلل رئيس «لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني» حسن منيمنة من الانعكاس الدراماتيكي لأزمة الوكالة الدولية على وضع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وينفي أن يكون هناك اتجاه لكي يحل لبنان مكان «أونروا» في تولي مسؤولية اللجوء الفلسطيني إلى أراضيه، أو أن تكون هناك نية لتوطين الفلسطيني في لبنان من هذه البوابة. ويقر منيمنة من خلال الاجتماعات المكثفة التي يجريها مع الفصائل الفلسطينية من جهة ومع المعنيين في «أونروا» من جهة ثانية «بوجود ثغرات، على الوكالة أن تعالجها، كمثل زيادة موازنة لبنان في ظل زيادة عدد اللاجئين وارتفاع كلفة الفاتورة الطبية فيه». ويشير إلى أن «نصف موازنة أونروا تصرف على نفقات استشفاء اللاجئين». ويكشف عن حالات فساد وهدر كانت ترتكب من قبل مستشفيات تحت غطاء استقبال حالات مشكوك بأمر استشفائها ما دفع بالوكالة إلى تدبير إشراك الفلسطيني بنسب معينة في طبابته والحد من الهدر من خلال خفض سقف الفاتورة الاستشفائية. لكن منيمنة يشدد في المقابل على «وجوب إعادة أونروا النظر في التغطية الطبية والإغاثية لحالات الفقر المدقع وعدم تطبيق التقشف بحقها». ويتخوف من أن «أي تراجع في خدمات أونروا للاجئين سينعكس على الاستقرار اللبناني. وهذا الأمر أشدد عليه خلال لقاءاتي مع المعنيين في الوكالة تجنباً للنقمة التي قد تتحول تطرفاً». ويشير إلى أن «الكل يتفهم هذا الأمر وتحاول أونروا بإجراءاتها خلق توازن في موازنتها. ونحن نشجع على الحوار بين الفلسطينيين والوكالة بمشاركتنا للوصول إلى حل منطقي وعاقل». صحيح أن الأزمة الحالية وحّدت الفصائل الفلسطينية حول مطالب لصيقة بصحة الرأي العام الفلسطيني اللاجئ الذي يدين لها بالولاء، وصحيح أن إمكانات بعضها المالية تتيح لها ابتكار أنواع جديدة من الحراك المطلبي، إلا أن التوجس الفلسطيني من إنهاء عمل وكالة «أونروا» لا يعدو كونه هروباً إلى الأمام لأن الجميع يعرف الارتدادات السياسية والأمنية لهذه الخطوة، على أن تبديد الهواجس يحتاج إلى معالجات يتشارك فيها الجميع للتخلص أولاً وأخيراً من نمط حياة يقول أن القضية «تحيا على الإعاشة».