في 11 تموز (يوليو) 1928 بعث الكاتب الفرنسي رومان رولان، الى زميله بناييت أستراتي رسالة جاء فيها: «انه عمل رائع... من أوله الى آخره... انه السيطرة المطلقة على العمل. في هذا العمل، في داخله كل نسغ الأرض ونيرانها». هذا العمل الذي يتحدث عنه رولان في الرسالة هو «أشواك باراغان» رواية استراتي التي قد تكون أقل شهرة من عمله الأساسي «كيرا كيرالينا» (المعروفة عادة ب «ألف ليلة وليلة» الرومانية) لكنها من الناحية الفنية تعتبر قمة في موضوعها وقدرة كاتبها، ان لم يكن في اسلوبها الذي يبدو - في نهاية الأمر - كلاسيكياً. «أشواك باراغان» كتبها استراتي مباشرة بالفرنسية في العام 1928، كما حاله بالنسبة الى أعماله الرئيسة. وهي لاقت على الفور استحساناً في فرنسا، من جانب الكتاب والنقاد، ولكن أيضاً من جانب جمهور القراء الذي كان اكتشف استراتي وأعماله الأدبية خلال السنوات المنصرمة. لكن الجديد هذه المرة هو أن صدور «أشواك باراغان» تزامن مع السجال الحاد الذي ثار من حول ما أعلنه استراتي من خيبة أمله في النظام الاشتراكي المطبق في روسيا إثر زيارة قام بها في عام 1927 الى موسكو في رفقة زميله اليوناني وصديقه نيكوس كازانتزاكيس، وذلك في تصريحات ورسائل عدة سرعان ما اتبعها بكتاب عن تجربته أثار حفيظة غلاة الستالينيين. ومع هذا فإن الرواية لم تحد من المبادئ النقدية الاجتماعية التي كان استراتي عبر عنها في أعماله السابقة، هو الذي وقف دائماً في تلك الأعمال الى جانب البائسين ضد مستغليهم، كما الى جانب الأرض والطبيعة ضد الرأسمال الذي يستغلهما. ومن هنا ستظل «أشواك باراغان» واحدة من العلامات الأساسية في الأدب الاجتماعي في القرن العشرين، وعلامة على «صرخة انسان حر ضد كل أنواع الاضطهاد وكل أنواع الظلم». و «أشواك باراغان» اضافة الى جمالها الفني وروعة اسلوبها، هي تعبير عن تلك الصرخة. والى هذا فإن هذه الرواية تظهر ومنذ صفحاتها الأولى رفضاً لكل ضروب التبسيط الدوغماتي الذي كان يطبع أنواع الأدب الاشتراكي والواقعية الاشتراكية - على الطريقة الستالينية - في ذلك الحين وطوال حقبة طويلة من القرن العشرين. خصوصاً أن استراتي لم يعمد فيها الى أمثلة الفلاحين والبائسين الذين رسم صورهم في فصول عمله. فهم، انطلاقاً من اضطهادهم، لا يتوقفون عن اضطهاد نسائهم وضربهن، وعن استغلال اطفالهم، غارقين في الكحول والسقوط الخلقي... ان عماهم وتصرفاتهم تبدو مسؤولة عن بؤسهم بقدر ما ان الرأسماليين مسؤولون عنه أيضاً. وبالنسبة الى استراتي من الواضح هنا ان القارئ لكي يتعاطف مع شخصية أو يأخذ يناصرها ليس في حاجة الى أن تكون الشخصية نقية نقاء مطلقاً أو طيبة كل الطيبة. ان الانسان كائن من لحم ودم، له حسناته وله عيوبه: انه هنا بغثه وسمينه، ببؤسه وغناه، بطيبته وخبثه، بنزواته وضروب خضوعه. ولعل هذا ما أعطى الرواية جانباً من قوتها وجمالها، في زمن كان فيه معظم الأدب الاشتراكي يوزع الابعاد الاخلاقية تبعاً للموقع الطبقي للشخصية! تدور أحداث «أشواك باراغان» في حوالى عام 1907، إبان واحدة من أكثر الحقب ثورية ودموية في التاريخ الروماني الحديث. والباراغان هي منطقة سهول رومانية فسيحة تقع في محاذاة مجرى نهر الدانوب، مطلة على دلتا يشكلها هذا النهر... وهي منطقة ذات صيف صاخب حار وخريف خصب وشتاء قاسٍ تضخمه رياح عاتية آتية من روسيا. إذاً، الى هذه المنطقة القاسية يصل الأب مارين وابنه ماتاكي، ساعيين وراء العيش. غير ان الأب وهو عازف ناي حالم، لا يبدو مؤهلاً لعيش حياة تتطلب قدراً كبيراً من الشجاعة والصلابة. أما ماتاكي الابن فإنه لا يزال صبياً صغيراً، ومع هذا ها هي الرغبة في السفر، في الرحيل الى البعيد، تستولي عليه مؤرقة ليله ونهاره. وها هي منطقة الباراغان بأدغالها وأشواكها وآفاقها الملونة تسحره وتفتنه. وهو، مثل بقية اطفال المنطقة يحب أن يمضي وقته لاعباً ب «الأشواك الطائرة»، حيث إذ يربط نفسه بجزع شوك قوي، يطير في الهواء مدفوعاً بالرياح القوية. وسط ذلك المناخ تندلع، إذاً، ثورة الفلاحين... ويتدخل الجيش وتتدخل المدافع القاتلة دفاعاً عن مصالح وحياة الاقطاعيين وكبار القوم. ويحدث ان يتم اعدام عازف الناي المسكين، إذ يخيل لعملاء الجيش انه واحد من المحرضين على الثورة. أما ماتاكي فإنه، بعد مقتل أبيه يبقى وحيداً في مواجهة منطقة الباراغان الفسيحة التي صارت تبدو، بالنسبة اليه الآن وكأنها عملاق ضخم مخيف... لكن الربيع سرعان ما يحل، والرياح سرعان ما تهدأ، وكذلك تهدأ مخاوف ماتاكي... غير ان هدوء الريح يتسبب من ناحية ثانية في عدم تمكين جزوع الشوك من الطيران، وهكذا يفقد ماتاكي بالتالي مبرر عيشه الوحيد، والرابط الذي يصله بتلك الأرض التي يعيش عليها الآن... ولا يبقى له إلا أن يعود لكي يحلم بالبعيد من جديد... وهكذا يتحرك ويهاجر هذه المرة بالفعل، ولكن ساعياً وراء آفاق العالم كله وقد أحس انه بالكاد يتسع له... أما الأشواك الطائرة فإنها، مع أية هبة للريح، تطارده سائرة وراءه على خطاه. رواية «أشواك باراغان» هذه تعتبر، منذ انتشارها، أشبه برواية قومية رومانية، نظراً الى أنها تحمل واحداً من أسس الشخصية الرومانية: وهو ذلك الارتباط - الانفصال بين الانسان الروماني والأرض من ناحية، وبين ذلك الانسان والتوق الى البعيد من ناحية ثانية. ثم ان هذه الرواية تصف في الوقت نفسه تلك الحقبة شبه المجهولة من تاريخ نضال الفلاحين الرومانيين ضد مستغليهم... في نص من الواضح ان الكاتب يتماهى فيه مع البائسين والمستغلين، عبر لغة شاعرية ترتبط بالطبيعة الرومانية المدهشة، حتى وإن كان النص مكتوباً بالفرنسية، علماً أن استراتي ادخل في لغته الفرنسية هذه، ثمانين كلمة رومانية وكلمة تركية واحدة، صارت منذ ذلك الحين جزءاً من الفرنسية المتداولة. وبانييت استراتي (1884 - 1935) هو في الأصل ابن فلاحة رومانية، ومهرب، عاش طفولة شريدة من حول مناطق البحر الأبيض المتوسط، حتى اليوم الذي كان يعيش فيه في مدينة نيس الفرنسية ويعمل مصوراً متجولاً، فأودى به اليأس الى محاولة الانتحار. وحين عثر عليه وهو على الرمق الأخير وجدوا معه رسالة موجهة الى رومان رولان، وحين درى هذا الأخير بالأمر وقرأ الرسالة وجدها ناضجة أدبياً ولغوياً وفهم ان كاتبها يمكن أن يصبح كاتباً كبيراً فالتقاه وشجعه، وراح استراتي يكتب منذ ذلك الحين أعماله وينشرها تباعاً، مالئاً اياها بحكايات على النمط الشرقي، فحقق نجاحاً كبيراً. غير ان شهرته ككاتب سرعان ما اخلت المكان أمام شهرته كمفكر ومناضل خاب أمله من اشتراكية ستالين... لكنه ما إن بدأ يعيش بفضل وضعيه هذين، حتى بدأ مرض السل يأكله تدريجاً، حتى قضى عليه في النهاية وهو بعد، في ريعان شبابه، كما في قمة عطائه.