حتى من قبل ان يزور باناييت استراتي بعض مدن الشرق والمدن العربية، لا سيما مدينة دمشق اوائل القرن العشرين، ويكتب عنها، كان هناك دائماً لدى هذا الكاتب الروماني مزاج شرقي كبير ومهيمن. من هنا لم تكن صدفة ان تمتلئ رواياته وقصصه بالشخصيات التركية والعربية، وأجواؤه بعوالم تجعله احياناً يبدو وكأنه كاتب شرقي أو مستشرق - على الأقل -. وهو ما لم يكنه في حقيقة امره على اية حال. فهو، بعد كل شيء كان كاتباً أوروبياً، بل كوزموبوليتياً، عينه على فرنسا وقلبه في رومانيا والبلقان، وهواه أوروبي تماماً. اما حين أدخل «الشرق» وعالمه في أدبه، فإنه لم يبد لا متحاملا، على طريقة بعض الغربيين، ولا مفتوناً بانذهال على طريقة بعضهم الآخر. بدا، فقط، كاتباً يحب العالم وشعوبه، ويحب ذلك السحر الخفي الذي يجده في شرق عرفه عن كثب، وقدّر دائماً حياته الشعبية وأبعاده الأخلاقية، من دون ان يقع في فخ ثنائية الحكم المعهودة. ولعل هذا يتجلى في روايته الكبرى والأساسية «كيرا كيرالينا» التي تسمى عادة ب «ألف ليلة وليلة الأوروبية»، وليس الرومانية. نسبة الى جنسية الكاتب، ذلك انها كتبت، أصلا بالفرنسية وفي باريس تحديداً، لتكون فاتحة سلسلة اعمال آثر استراتي ان يكتبها بلغة موليير. ولهذا الأمر، في حد ذاته حكاية تروى. فعند بداية سنوات العشرين من القرن الفائت، وبعد سلسلة من الجولات والإخفاقات وبعد زواج دمره بدلا من ان يريحه، وفي ظل اشتباكات فكرية، عبر الرسائل مع صديقيه الكبيرين اليوناني كازانتزاكيس والفرنسي رومان رولان، وقع استراتي ضحية مرض أوصله في نهاية الأمر الى حافة اليأس فحاول الانتحار، غير ان فشله في تلك المحاولة اضطره لأن يمضي في المستشفى بعض الوقت. وهناك زاره صديقه رومان رولان مرات عدة، وخلال الزيارات التي قرّبت بينهما، بعدما كانا متعارفين من طريق الرسائل، دهش رولان، العقلاني والبارد، امام موهبة استراتي كحكواتي شرقي اصيل، إذ راح هذا يروي له الحكاية إثر الحكاية، عن عوالم البلقان والشرق العثماني والمدن العربية... امام تلك الحكايات وجد رولان نفسه، كما سيقول لاحقاً، امام «غوركي» جديد، مشيراً في هذا الى الكاتب الروسي الكبير مكسيم غوركي الذي اشتهرت اعماله بغناها بالأحداث وتنوع شخصياتها، ووقوفها دائماً الى جانب البؤساء ملقية اللوم على المجتمع والظروف. ولم يسع رومان رولان في نهاية الأمر إلا ان ينصح صديقه بأن يكتب رواية كبيرة وتحديداً «بلغته الفرنسية البسيطة والطيبة». واستجاب استراتي، وهكذا، خلال اشهر قليلة ولدت تلك الرواية التي نشرت في عام 1923 مع مقدمة مفعمة بالحماسة كتبها رومان رولان بنفسه. والحقيقة ان «كيرا كيرالينا» حققت نجاحاً كبيراً منذ صدورها واعتبرت علامة من علامات الأدب الأوروبي كما ترجمت الى الكثير من اللغات، ونالت تقريظاً من كبار الأدباء المعاصرين. ولئن كانت «كيرا كيرالينا» تبدو، في ايامنا هذه، منسية بعض الشيء، فإن هذا لا يقلل من قيمتها ولا من امكانية عثورها دائماً على حياة جديدة لها، وربما عبر اعمال آخرين حاكوها او استلهموها، أو أي شيء آخر. فالحال ان روايات عدة كتبت في أوروبا مستلهمة احداثها من عالم الشرق ومدنه وعالم القصور وأجواء التمازج بين الغرب والشرق، تدين بدين كبير الى «كيرا كيرالينا». فماذا عن هذه الرواية نفسها؟. صحيح ان احداث الرواية تبدأ في البلقان من حول نهر الدانوب، حيث ولد استراتي وينتمي بالتأكيد، غير ان الأحداث سرعان ما تتخطى ذلك الإطار الجغرافي لكي تعبر البحر الأسود واصلة الى بقعة واسعة فسيحة من مناطق الامبراطورية العثمانية. اما زمان احداثها فهو الحقبة الوسطى في القرن التاسع عشر، ايام بلغت الامبراطورية العثمانية ذروة تألقها وبداية انهيارها في الوقت نفسه. غير ان هذا البعد لم يكن هو ما يهم الكاتب. ما يهمه كان مصير البشر، البائسين، وسط اوضاع اجتماعية لا ترحمهم، لكنها في الوقت نفسه، وجدلياً، تقوّي من عزيمتهم وتعطي وجودهم على الأرض مبرراته. تتحلق احداث الرواية حول بطلها الأساسي دراغومير الذي سيعرف باسم ستافرو. وهو، عند البداية صبي هش عاطفي، يبدو شديد الارتباط بأمه وشقيقته، وهما امرأتان شديدتا الحسن تعيشان حياة في غاية البؤس والمشقة. وهؤلاء الثلاثة لا يجدون بعض المتعة في الحياة إلا حين يغيب الأب والابن الأكبر، وهما حرفيان شريفان لكنهما قاسيان، لا يروقهما نمط الحياة الذي تريد الأم وابنتها ان تعيشاه، ويحاول الصبي الصغير التماشي معه والإفادة منه. ففي حقيقة الأمر تبدو الأم وابنتها اشبه بامرأتين ميالتين الى غض النظر عن الأخلاق والمواثيق الاجتماعية إذا كان هذا سيسفر عن خروجهما من بؤسهما، ويبدو الفتى الصغير متواطئاً معهما، بينما يحاول الأب وابنه الأكبر قمعهما، كلما حضرا الى البلدة. ومن هنا تتحول الفترات التي يجتمع فيها شمل العائلة الى ساعات شدة وخناقات لا تنتهي، حيث يعنف الرجلان البالغان في معاملة المرأتين والصغير. ويصل هذا الوضع الى ذروة تأزمه ذات يوم حين يصل الأب ليجد المرأتين وسط احتفال مشبوه، فلا يكون منه إلا ان يوسعهما ضرباً، كما يضرب الفتى الصغير، اما الضيوف المشاركون في الاحتفال فيكون مصيرهم ان يرموا، من النافذة، بكل بساطة. وهنا ينتهي الجزء الأول من الأحداث ليبدأ الجزء الثاني، حيث ان الأم وابنتها والصبي الصغير يهربون وهم على امل ان يجدوا في البعيد حياة جديدة لهم. وبالفعل، يترك دراغومير وأخته كيرا، نفسيهما لمن يقودهما الى الآستانة سعياً وراء الحياة البذخة. ولكن هنا، بدلا من حياة تجمع شملهم، يتم التفريق بينهم، فالابنة تضم الى حريم رجل ثري، والصبي يترك في عهدة رجال اشرار وقادرين، اما الأم فتختفي إذ تفضل ألا يعود احد الى رؤية وجهها الذي كانت شوهته ضربات زوجها. وتمضي الأيام حتى يصبح دراغومير شاباً قادراً. لكنه لا يزال يحلم بلقاء امه وأخته، أو واحدة منهما على الأقل، ويبدأ بحثه متجولا بين المدن والأماكن راصداً اخلاق الناس وسيطرة الحياة المادية حيث صار المال ملكاً... لكنه لا يوفق في بحثه، وإن كان يوفق في ان ينقل إلينا صورة العالم الذي يتجول فيه. وينتهي الأمر بأن يلتقي الشاب وهو في قمة بأسه برجل عجوز حكيم يدعوه لأن يشاركه بيع شراب الليمون معلّما إياه ضروب الحكمة والصبر، وأن سلوك سبيل هذه الحكمة انما هو السعادة الأبدية. وكان من الواضح ان استراتي رسم في هذه النهاية العاقلة، خطة حياته المقبلة بعد يأسه ومحاولته الانتحار. غير ان ما استوقف القراء دائماً لم يكن هذه النهاية الحكيمة، بل الأجواء التي وصفها الكاتب ببراعة. ومهما يكن من الأمر فإن استراتي لم يعش بعد نشر «كيرا كيرالينا» طويلا ليستمتع بثمار حكمته، إذ انه مات في عام 1935 في بوخارست عن واحد وخمسين عاماً، مخلّفا عشرات النصوص الروائية والقصصية المنتمية الى أدب الرحلات، ما صنع له مجداً حقيقياً. واستراتي الذي ولد عام 1884 لأسرة تنتمي الى الفئات البائسة في الشعب الروماني، بدأ حياته وهو صبي متنقلا بين البلدان العربية والمتوسطية حيث مارس العديد من المهن، ثم عاش مطولاً في سويسرا وفرنسا. وفي عام 1927 قام بجولة في الاتحاد السوفياتي الذي كان يميل الى ثورته البولشفية، ويعتبر نفسه مناصراً للشيوعية فيه. لكنه بعد ذلك، وبعد مقالات عدة حماسية نشرها في الصحافة العمالية الرومانية اخلد الى صمت أفاق منه وهو ضحية أزمة روحية عاصفة. ولقد أفاق من أزمته بعد ذلك ليكتب أفضل اعماله، ومعظمها في الفرنسية، وبعضها تحت تأثير مباشر من غوركي ورومان رولان الذي كتب عنه، بعد شهور من موته يقول: «انني لأحتفظ لنفسي بذكرياتي الحنون والحزينة عن باناييت استراتي على رغم الأخطاء السياسية الخطيرة التي ارتكبها، والتي أساءت إليه في نهاية حياته، وسبق لي ان شجبتها في آخر رسالة كتبتها إليه. وفي الحقيقة انه لم يخلق ليكون سياسياً. كل ما في الأمر ان المتحلقين من حوله قد تلاعبوا به، واستفزوا اندفاعاته العاطفية...». وكان رولان في هذا يشير الى أزمة استراتي الروحية التي تلت زيارته الى الاتحاد السوفياتي وجعلته يقف موقفاً معادياً من الشيوعية والستالينية. [email protected]