هل فازت روسيا البيضاء (بيللا روسيا) بجائزة نوبل للآداب أم أنّ التي فازت بها هي «أصوات» الذين يسكنون كتب الروائية سفيتلانا أليكسيفيتش، من ضحايا الستالينية والحرب العالمية الثانية والحرب في أفغانستان وتشرنوبيل؟ كأنه فوز جماعي هذا الذي حققته الكاتبة ابنة السابعة والستين، التي ولدت في أوكرانيا عام 1948 وفتحت عينيها باكراً على مآسي الحرب الثانية التي حصدت جدها وجدتها قتلاً على أيدي النازيين. إلا أن النظام الراهن لم يرض كثيراً عن سفيتلانا على رغم تجذر أعمالها في الأرض الروسية والتاريخ وفي ذاكرة «شعب مشبع بالحنين والنكبة». فهي لا تتوانى عن توجيه سهام النقد إليه فاضحة الألاعيب التي يمارسها ومتحدثة دوماً عن نهب الثروات وعدم احترام القيم الإنسانية. ولئن اعترفت بأن مواطنين كثراً يرون في الرئيس الروسي الحليف فلاديمير بوتين «الشخص الذي يجسد المجد الروسي الغائب»، فهي تعمد الى السخرية منه، لا سيما في إطلالاته «الكاريكاتورية» عاري الصدر مثلاً، أو حاملاً بيده بندقية، كما تقول. فهذا الرئيس الذي «ينسى دوماً وعوده بالإصلاح أو يتناساها»، تأخذ عليه تعنته ومحاربته المثليين، ولا تنسى حملته الشعواء على فرقة «بوسي رايوت» الموسيقية وزجه مغنيتين في السجن عقاباً على نقدهما سياسته القيصرية. أصابت الأكاديمية السويدية في تبريرها اختيار هذه الكاتبة، وفق ما جاء في بيانها، فأعمالها «المتعددة الأصوات تفنّد معاناة عصرنا» فعلاً، بل هي تمثل المأساة الروسية بظلالها المختلفة: الستالينية، الحرب الثانية، النفي إلى سيبيريا، خيبة البيريسترويكا، سقوط الاتحاد السوفياتي، تشرنوبيل، الفساد الرهيب... وفي كتابها «نهاية الرجل الأحمر»، تتحدث مهندسة تقارب الستين من عمرها وتدعى آنّا، عن حال الإحباط التي يعيشها المواطنون، بلسان الشاهدة: «لم يبق شيء سوفياتي. يجب علينا أن نتحايل حيثما كنا، أن نصارع. هذا العالم لم يعد عالمي. أنا لست في وطني». كتبت أليكسيفيتش: «إنسيكلوبيديا العصر السوفياتي» كما يُقال، من خلال شهادات الرجال والنساء الذين عاشوا المآسي والمراحل التي اجتازتها روسيا. كانت اكتشفت أن المؤرخين أهملوا المصادر الحقيقية والحية في كتابتهم تاريخ روسيا الحديث ولم يعيروا انتباهاً الناسَ الذين عاشوا المآسي عن كثب وخسروا وأصيبوا وفقدوا الأهل والمنازل. راحت تجمع شهادات هؤلاء المهمشين شفهياً وتعيد كتابتها في صيغة تراوح بين السرد والتوثيق. وكم كان يؤلمها منظر المعوّقين والمشردين بعد انتهاء الحرب وانسحاب الجيش النازي. وتقول إن شخصاً من أربعة قتل في روسيا البيضاء جرّاء ويلات الحرب. لكنّها لم تقصُر سردها «الميداني» على الحرب الثانية، بل رافقت أيضاً ضحايا «القبضة الحديد» في ظل النظام البولشيفي، وقابلت جنوداً روسيين عائدين من جحيم أفغانستان ورووا لها فظائع ما ارتكبوا وعانوا هناك. وعندما وقعت كارثة تشرنوبيل تصدت لها وكشفت عن بضعة أسباب أدت إليها وفي مقدّمها الإهمال الكبير. وكانت جريئة جداً في فضحها الأخلاق البولشفية، هي التي كانت عضواً في منظمة الشبيبة الشيوعية، واعترفت: «كنا محاطين بلصوص نهبوا كل الثروات، كنا ساذجين». لكنها كانت تحلم بما تسميه «اشتراكية إنسانوية» لم يتحقق منها شيء. لا تكتب سفيتلانا رواية تقليدية ولا تاريخية ولا رواية مغامرات، ولا تعنيها الشروط الثابتة للفن الروائي. كانت واضحة جداً في قولها إن روايتها هي «رواية أصوات». رواية شهادات أدلى بها أشخاص ينتمون الى فئة الضحايا الأحياء والمعزولين والمهمشين. هم يروون وهي تكتب، لكنها في كتابتها تعتمد نسيجاً سردياً متماسكاً ومسبوكاً. هذه المواصفات ميزت أدبها وأضفت عليه طابعاً فريداً. وهي استفادت كثيراً من خبرتها في حقل الصحافة لكونها صحافية سابقة، ولكن من غير أن تجعل من نصوصها مجرد تحقيقات صحافية. «لست بطلة» تقول علناً، لكنّ كتبها حافلة بالأبطال السلبيين، الأبطال الذين يعانون ويتعذبون على اختلاف المراحل التي ينتمون إليها، و «العذاب تقليد روسي» تقول سفيتلانا. وفي كتابها «الحرب ليس لها وجه امرأة»، جمعت شهادات نسوة انخرطن جنديات في الجيش الأحمر واعترفن لها بما يفوق التصور. ومن كتبها المهمة «توابيت الزنك» و «التوسل: تشرنوبيل»... ترجمت كتبها الى لغات عدة، لكنّ العربية لم تعرف لها أي عنوان.