كتاب الغرق كنا نحتاج مسافة ثمانية أيام كي نذهب إلى القرى الآهلة ويذيع صيت الصيادين الذين يتذكرون جسدكِ. نحمل الهدايا وتقع منا في الطريق. حتى ذلك الوقت نَصفُكِ بشجرة ونبني لكِ بيوتاً في المنام لتنهدم على رؤوس أصحابها حين يستيقظون وهم يمسكون طرف ثوبكِ. وتطلع من صدركِ طيور نادرة لا تشتكي من البرد ولا تجدها في الكتب أمم الأرض, كان البدو يستدلون بها إلى الماء. هناك لا تطلع نبتة فقط الفلاحون يحرثون أرضكِ لكسب العيش. ولكي تفرحي بمفتاح دمشق حيث الحياة لن تكون سهلة بعد الآن, وكثيرون سيحتفلون لرحيلي. الذين يتوحشون كلما تذكروا كيف كان يلتمع بطنكِ تدمع عين أحدهم. نسرقُ العنب من شفتكِ المصكوكة على العملات القديمة ونتحارب في القواميس حين تهب ريح جافة, ونموت من العطش حتى ينكشف منكِ شيء. لا موارد ولا نجاة سوى نظرتكِ تطعمين الغنيّ والفقير على نفس الحصيرةِ. كأنه الليل يطويكِ وتنفتحُ ساقاكِ تجاه نجم القطب, والتين يتساقط ببطء ويأتي الراعي من الصحراء التي في «النبك» كي يسكن قرب «باب كيسان». والدقيقة قربكِ كانت بدهر والدهر ينقلب إلى نظرة. ماء الأنهار غيمٌ قديم يسكن تحت لحمكِ أتت منه المجرات والنجوم. وكان لنا طفلٌ تحبه آلهة مصر القديمة: لا يشبه الليل, ولا يشبه الكلمة التي اخترعها المزارعون في الحقول وهم يستظلون باسمكِ من شمس حزيران, ومن مغبة العطش الذي يأتي على حين غرة. ونسهر طويلاً مثل شغيلة العصور الأولى, لنرى كتفكِ تلتمعُ كصحن النحاس في المعبد أو نلحق ظلكِ إلى آخره كي لا ننساه في الكتب, نشمّهُ مثلما نشم الورد الذي على التلال وندلّه على التيه. نتفرّجُ عليكِ مثلما كنا نتفرج على الثلج أيام الطفولة. ونفتح الباب إلى آخره للغريب كي نلمحكِ. ونمشي حفاة كي لا نوقظ عصافيركِ في المنام. الدروس المقدسة نأخذ معنا مقابض الأبواب والشجر الذي أكلنا تحته الرمان: - نريدكِ بيننا. عريكِ يضيئه نجم وقع فوق سطح البيت. نحفظكِ بالعين ونخبئكِ بين شقوق الجدران كي يأتي الغزال ويأخذكِ. لا سلالم فقط يدكِ التي تسحب الغرقى من غفوتهم. وفمكِ الذي نريد تقبيله قبل أن يأتي الفجر. الكتبُ تشرحُ أسباب جسدكِ الذي تأوي إليه الطيور, والعميان لا يدركون سبيلكِ: نفعل الحب لأول مرة وكأننا نموت إلى الأبد. أكرم قطريب الطفلُ والبحر أمي... هذا اليوم، داعبتني الأسماكُ كثيراً... وكذلك الأمواج. كدتُ أغرِقُ البحرَ في حبّي. ظنّني زبدُ البحرِ لعبةً سقطت من يد طفل غريق. أودعتُ لدى الأسماك الكثيرَ من الضحكات. أودعتُ كل أحلامي، بكائي، غنائي. وودّعتُ الموتَ... عدتُ من حيثُ أتت الريح، وعادَ البحر من حيث يأتي الغروب. أمي... أنا شروق الحكاية. طريحُ الأمواجِ والشواطئ. أدفعُ بزورقكِ، كأنه من ورقِ الجرائد التي ستكتب عنّي. لا تخبري أخوتي أنني عالقٌ في حلق الكونٍ، كلعنةٍ داميةٍ عليهِ. سترويني الرمالُ على أسماعِ من بهم صمم. ولن يرويني ماء البحر. أمي... لا توقظيني. أريد النومَ في حضنك، أكثر من أيّ وقتٍ مضى. لا تقصّي عليّ حكايتي... حكايةَ شعبٍ غريق، ووطنٍ حريقٍ غريق. قصّي عليّ حكايةَ «ليلى والذئب»... أو أيّة حكاية أخرى. أبتي... حتّى البحرُ أيضاً يلفظنا!؟. تنسجنا الأقدارُ جثثاً تتقاذفها الحرائقُ والمياه. لكن، سأكبرُ يوماً. ولن انتقم. ولن أسامح. سيبكر معي ألمي وأملي... وسيصغرُ العالم. أبتي... هل قلت لك: سأكبرُ يوماً؟!. سأغدو بحّاراً يقودُ سفينةً، وأنقذُ العابرين من هنا. سأوقدُ الشموعَ في قلوب الطغاة... ولن أسامحهم. انتظرني قليلاً... كي أكبر قليلاً... ستنتظرني الأسماك التي داعبتني كثيراً.... وكذلك الأمواج. سينتظرني البحر الذي أتعبتهُ كثيراً. كي أزرعهُ زيتوناً وقمحاً. لن يسألني: من أين أتيت؟ ولماذا؟. لن يسألني: ما هي أخبار كوباني ودرعا؟!. فقط، سيهددني كي أخلدَ للهدوءِ الأخير، لأنني صرعتُ سمكة قِرش. هوشنك أوسي تركوا كل شيء خلفهم تلك السكاكين التي تلمع تحت الشمس تلك الكنائس الحجرية التي تركض خلف الآشوريين الذين تركوا خلفهم كل شيء وهربوا سأحمل صليبي الذهبي الصغير الذي تركته لي جدتي الأرمنية وأركض حافياً خلفهم الآشوريون ملح هذه الأرض الحزينة ... ذئاب لا أحب الثلج والمطر والشتاء لا أحب المشي تحت ضوء القمر لا أحب الموسيقى لا أحب الشموع لا لوحات فان غوغ لا أحب قصائد نزار قباني أمضيت عمري في البحث عن الذئاب ولم أكن أعرف أنني أحيا بينهم ... حرب أصبحت غريباً في بلادي لولا قبور الأصدقاء لما وجدت الطريق إلى البيت. سنتقاسم الحرب أنت تدفن الأصدقاء وأنا أبكي عليهم. هذه هي الحرب وهي ليست خدعة سنموت جميعاً من لم يمت برصاصة سيموت من الشوق. غادرنا البلاد بحقائب صغيرة لذلك تركنا خلفنا أشياء كثيرة. الذي أطلق الرصاص علي كان أخي سيعود لرشده يوماً وسيبكي ولن يجد مكاناً يضع رأسه عليه غير شاهدة قبري.