بعد ترجح دام نحو عشرة أيام، حسم الإخوانيون المصريون أمرهم. فأصدروا، في 22 نيسان (ابريل)، بياناً حمل رأيهم الأخير والواضح في مسألة خلية «حزب الله» الاستخبارية والأمنية بمصر. وذهبوا الى 1 - ان ترك الشعب الفلسطيني «اعزل يواجه الحصار والموت والدمار» بينما تدعم أميركا الكيان الصهيوني بكل السبل، فضلاً عما يمتلكه من ترسانة نووية»، «لا يُعقل»، ومعنى هذا أن الخلية سائغة، 2 - والى ان الدعم «يجب أن يتم بالتعاون والتنسيق بين كل الدول العربية والإسلامية»، و «وسائل الدعم يجب ألا يشوبها أي نوع من التصرفات المنفردة»، ومعنى هذا أن الخلية لا تسوغ، 3 - والى حرص الإخوانيين على مصر وأمنها القومي ورفضهم استخدام أراضيها، مثل «اقامة القواعد العسكرية على أرضها... وغير ذلك»، «من أي جهة دون علم وموافقة منها»، ومعناه أن الخلية تسوغ ما دامت قوات غير مصرية ترسو في الموانئ أو تهبط في المطارات، 4 - ولا يقتصر تهديد الأمن القومي على استخدام الأراضي الوطنية على الوجهين المذكورين، بل يتعداه الى الفساد السياسي والمالي والإداري و «حرمان الشعب حقوقه في الحرية والمشاركة السياسية واختيار قياداته ونوابه»، فالخلية الأمنية لا تهدد الأمن القومي، 5 - ويخلص البيان الى حق المقاومة «بكل الوسائل المتاحة»، وادانة «كل من يشارك في حصار اخواننا، ويمنع عنهم الدعم من الغذاء والكساد والدواء والعلاج». وهذا مسك الختام: الخلية الاستخبارية حق صراح. والبيان المركب تركيباً معقداً يجمع مبادئ العمل الاخواني كلها، وفيها مبدأ ترك رفع السلاح بوجه «الدول». ويحرص أصحابه على ألا يؤدي جمع المبادئ الى ادانة فرع الحزب الخميني المسلح والأمني في لبنان، وستارته الفلسطينية، وألا يوحي بتأييدها الحكومة المصرية، وتبرئة ساحتها الداخلية والإقليمية والدولية، بذريعة حماية أمن مصر الوطني من الانتهاك الحزبي والخاص. والخلية الأمنية الحزب اللهية، والإيرانية مصدراً وتمويلاً ووظيفة، تصيب موضع التقاء الوطنية المصرية (وتعبير الدولة والحاكم عنها) بالرابطة الإسلامية والعروبية، من «الجسم» المصري، وعقدة الاثنتين معاً. ولعل هذا ما تريده السياسة الإيرانية، وتسعى فيه منذ استيلائها السياسي والمعنوي والمادي على معظم «العمل» الفلسطيني وأذرعته السياسية والأمنية والمسلحة والاجتماعية في فلسطين نفسها، وفي بعض دول الجوار. واضطلاع لبنان، جماعات أهلية وأرضاً و «دولة» (في الحقبة السورية والى اليوم)، بدور القاعدة أو البؤرة التي نهض عليها هذا الاستيلاء، يسرته وتضافرت عليه الحروب الملبننة والمستمرة منذ ثلث قرن. والفصلان الأخيران من الإستيلاء الإيراني السياسي والمعنوي والمادي على «العمل» الفلسطيني النافع، أي حرب «حزب الله» واسرائيل وحرب «حماس» واسرائيل، امتحنا الموضع نفسه من التقاء الدائرتين، الوطنية والإسلامية. وكان افتعال الفصل الأخير، الحمساوي، الإيذان بتوسيع الاستيلاء الى «الأراضي» السنّية من العالم الإسلامي، وأولها مصر. فمصر هي جوار جنوبفلسطين المباشر، وبوابتها على العالم العربي وجسرها اليه، وهي الوصية على غزة التي آل أمرها اليها طوال عشرين عاماً قبل خسارتها إياها مع سيناء في 1967. ويصيبها القيد العسكري والأمني الذي يصيب اعادة سيناء الى السيادة المصرية، على نحو ما يصيب سيناء نفسها. فامتحان تعامل مصر مع غزة، في السلم والحرب، يبدو كأنه يختبر تعامل مصر مع أرض وطنية مصرية، ومع سكان مصريين. وهذا مثال محلي ووطني آخر على صورة سياسية عامة، «قومية»، صاغتها الحركة الوطنية الفلسطينية المسلحة، غداة 1967، حين نددت ب «حرس الحدود» العرب، كناية عن تجنب حكومات دول «الطوق» ترك حدودها في عهدة منظمات فلسطينية مسلحة، تتقدم روابطها الأمنية والاستخبارية، وولاؤها «القطري» غير الفلسطيني، روابطها السياسية الوطنية وولاءها الفلسطيني. والى هذا، تؤوي مصر الحركة الإخوانية الأم، وأعرض التيارات الإسلامية المنظمة في العالم العربي. وأم الحركات الإخوانية العربية عموماً، هي أم الإخوانيين الفلسطينيين خصوصاً. وانقسامات التيار الإخواني بعد «محنته» عن يد جمال عبدالناصر، وولادة تيار مقاتل ومراجع، أو مفاصل ومهاجر وفاتح، الظواهري أبرز وجوهه اليوم، لم تحسم (الانقسامات والولادة) ترجح الإخوانيين بين نازع وطني وسياسي اجتماعي وتعليمي، وبين آخر «عالمي»، «عابر للحدود»، ومقاتل. ولا يعدم الجناح المقاتل الأقلي أثراً في الشطر الأعظم، السياسي، على نحو ما لا يعدم هذا أثراً، ضعيفاً على الأرجح، في الجناح المتشدد. وتبعث أوقات التأزم، شأن حرب «حماس» والقوات الإسرائيلية، الجروح غير المندملة. ولا شك في أن الفصل الغزاوي والحمساوي من سياسة الاستيلاء الإيرانية الخمينية على الكتلة الفلسطينية - وهذا الفصل جزء لا يزال ضئيلاً من بناء الطوق الأمني والاستخباري الإيراني وتوسيعه الى الساحل الغربي من شبه جزيرة «العرب»، وضفتي البحر الأحمر، وبوابتيه على المتوسط شمالاً وخليج عدن جنوباً - احتُسب وجه منه على أساس استمالة الحركات الإخوانية السنّية، في المشرق ومصر، وما بينهما إذا أمكن، وعلى تقدير هذه الاستمالة. وهذا ما لم تتأخر ثمرته في الظهور. فخرج إخوانيو سورية من الجبهة المعارضة الهشة. وهم لم يخرجهم منها فصل صيف 2006 الحربي، ولم يدعهم الى التضامن مع المحنة الفلسطينية على «الصهاينة» و «الكيان الصهيوني». ولعل هذا ما حمل طهران، ورئيسها الحرسي، على الإقدام على الفصل الحمساوي الغزاوي من الحرب «العربية» على الدولة العبرية. فغزةفلسطينية من غير واسطة عربية، أو احتلال أراضٍ في جوار فلسطين. ولا يقتضي الانتصار لها، تالياً، إقدام دول عربية ثالثة على الانتصار المرجو. و «الحكومة» فلسطينية واخوانية ومنتخبة ومنفردة بحكم غزة. فلا يحتاج الأمر الى رعاية حكومة «مركزية» تتنازعها موجبات متناقضة أو متفرقة مثل تقليل الخسائر المدنية والمادية، ومراعاة المصالح والآراء المنقسمة، أو مثل العهود الدولية والاختيارات السياسية الاستراتيجية والدستورية. وهو ما اضطر فؤاد السنيورة، ومن سانده، الى مراعاته. وسمى الحزب اللهيون الحال هذه، أي الموجبات المدنية والسياسية والدولية والمادية واعتبارها، «طعناً في الظهر». وسوغوا، بلبنان، عدوانهم المزمن والمتمادي على الدولة والمجتمع والحقوق المدنية والسياسية، بطلب «أمنهم» الخاص والمستقل عن الالتزامات هذه كلها. وغزة الحمساوية والإخوانية هذه سنّية، وليست شيعية إمامية على غرار معظم جنوب لبنان ومعظم «الضاحية» ومعزلها المنكفئ وخندقها. فلا غرابة في انهيار الجبهة المعارضة السورية هذه المرة. ولم يعدم الفصل الحمساوي والغزاوي أثره في المملكة الأردنية الهاشمية. فاستيقظ اخوانيو الأردن على هموم «ديموقراطية». ونعوا على العاهل الأردني، وعلى العشائر، وعلى الديموغرافيا أو الميزان السكاني، صدارة «الأردن أولاً»، والتزامات الدولة الكيانية والأمنية والسياسية والمادية، على موجب التضامن مع المنظمة الإخوانية الأهلية والأمنية الفلسطينية. وتضافر ضعف أجهزة «حماس» والرد الإسرائيلي «غير المتكافئ» في المبدأ العسكري الردعي، والإعلام التلفزيوني الجزيري و «الإنساني» (الدموي واللحمي)، تواطأت هذه على تهمة سياسة الدولة الوطنية، وسعيها في سلامة النفس، بالتنصل من «القضية»، ومخالفة الإرادة الشعبية. وفي لبنان نفسه، أضعفت «الجماعة الإسلامية»، وهي منظمة الإخوانيين المحليين، التحفظ السني عن السيطرة السورية وتحريكها جماعاتها المحلية، ماضياً وحاضراً. ولم يبق الزعيم الدرزي الشوفي وليد جنبلاط بمنأى من الأثر الغزاوي الحمساوي. فرفد التعاطف مع غزة وانبعاث العروبة وفلسطين، والميل السوفياتي الأصيل، صدوعاً بالتهويل الحزب اللهي والإرسلاني بذر الحرب الأهلية في الصفوف الدرزية والجبلية نفسها. وعلى هذا، فالاستقواء الإيراني الخميني بالكتلة الفلسطينية النافعة والمقاتلة على العالم العربي، وبلدانه وجماعاته وجماهيره، لا يعدم مبررات وأسباباً وعوامل فاعلة ومؤثرة. وضعف بعض اخوانيي مصر، ومن القرائن عليه استمالة الإخواني المصري نصار جبريل الى شبكة «سامي شهاب» المزعوم (محمد يوسف أحمد منصور) والمصدَّق من الإدارة اللبنانية المخترقة، بإزاء الاستخبارات المعرَّبة، انما هو غاية سعى فيها الجهاز الأمني الإيراني، وتوسل اليها بوسائل استخبارية سياسية وايديولوجية ومادية مناسبة ومكافئة. فليس ثمة أنجع من «العمل» الفلسطيني، على النحو الذي تمثل عليه المنظمات المقاتلة اليوم، أداة تدمير للدولة الوطنية الإقليمية، ولمؤسساتها وحياتها السياسية. ف «العمل» هذا، في واقعه، ينصب مشروعية فوق المشروعية الوطنية المقيدة، ويضع مقاليدها بيد مدعيها من غير رقابة ولا قيد. وهو يهول بالحرب الأهلية، ويسوغها سلفاً، ويلقي بتبعتها والمسؤولية عنها على عاتق الوطني المقتصد بالأرواح والأرزاق. وفي خلاف المشروعيتين، على نحو ما ظهر في العمليتين العسكريتين الأخيرتين، يسع المنظمة العسكرية والأمنية الأهلية المزاودة على الدول وكياناتها، من غير رادع سياسي أو عملي وأخلاقي، على ما ترغب المنظمات هذه في ايهام جمهورها (وهي، حقيقة، تتستر على انصياعها المادي لمعايير الخسارة والربح بخطابة هاذية). وعندما يفتي خطيب الحزب الخميني المسلح في لبنان في السياسة المصرية المناسبة والقويمة، في أثناء الفصل الغزاوي الحمساوي من حملة الاستيلاء الإيرانية، فمرجع فتواه شأنه في الفتاوى «اللبنانية»، هو انجازاته «الفلسطينية» المفترضة في ميدان مقاتلة القوات الإسرائيلية. فالإنجازات هذه، وهي أقل من حماية الأراضي اللبنانية واللبنانية من العدوان، تقوم مقام التكليف «الشرعي» اللاحق والمرسل. وشرطها هو الحرب الأهلية، أو الحروب الأهلية المتناسل بعضها من بعض لا الى غاية. فلولا رعاية السياسة السورية تحويل لبنان واللبنانيين أرضاً سائبة (أو أرض سباء وحرب على خلاف المخزن المغربي والأمان الإسلامي)، وحؤولها المستشرس والعملي دون انبعاث الحياة في أوصال سياسة لبنانية متوازنة، ولولا «اعتياد» شطر من اللبنانيين «الموت» والقتل والدمار والولاء من غير سؤال، لما وسع طهران وأجهزتها الاستيلاء على «العمل» الفلسطيني. وترجمة الإخوانيين المصريين الأمن القومي المصري «حقوقاً» سياسية وطنية وديموقراطية على الحكم المصري، وهي حقوق ملحة وثابتة ولكن سندها ليس «المقاومة» ولا «العمل» الفلسطيني ولا المسألة الفلسطينية، الترجمة هذه تعمية متعمدة. فانتهاك الحقوق هذه انتهاكاً «قانونياً»، على ما هي الحال بإيران وسورية وغيرهما، أو واقعياً، على ما هي الحال في مناطق وبلاد الاستيلاء الحزبي الأمني، لا يستثير احتجاجاً ولا مطالبة أو تلميحاً. ولعل خلط المسألتين والمشروعيتين، وحمل الواحدة على الأخرى، في صلب تخريب المخاطبة السياسية و «الإعلامية» في المجتمعات المنكوبة بمنظمات مسلحة أمنية واقليمية من الصنف هذا. * كاتب لبناني.