لعبت الأغنية الاحتجاجية دوراً مهماً في الحراك الذي شهدته دول عربية، وساهمت في بعض البلدان في رسم ملامح الرئيس الجديد، عبر نقلها مطالب الشعب في قالب فني. مع اندلاع الثورة التونسية عام 2011، برزت العديد من أغاني الراب التي واكبت هذه الثورة وحمتها لما فيها من نقد للطبقة السياسية الحاكمة وفضح للمستور، والأهم كسر حاجز الخوف من السلطة. اعتقل مغني الراب الشهير حمادة بن عون الذي قدّم أغنية «رئيس لبلاد» والتي فتحت الباب أمام زملائه للسير في هذا النهج الانتقادي اللاذع. المشهد الفني في مصر كان مشابهاً، مع تغيير بسيط في النمط الفني، إذ لعبت فرق موسيقى «الأندرغراوند» دوراً بارزاً في توعية المتظاهرين وحضهم على أن تكون ثورة يناير سلمية لا عنفية، فبرزت فرقة «كايروكي» حين قدّمت أغنية «إثبت مكانك»، و»مطلوب زعيم» التي أوقف بثها على القنوات المحلية بعد نشرها لما فيها من نقد لاذع لسدة الرئاسة المصرية. كما برزت فرق أخرى لفتت نظر الإعلام إلى مشاكل بعض المناطق المهمشة وطرحت بعض الحلول للأزمة المصرية كما في أغنية «لو بقيت رئيس» لبلاك ثيما. لم تكن الأغنية النمط الفني الوحيد الذي برز خلال الثورتين المصرية والتونسية، لكنه الأبرز، في موازاة صعود ملحوظ لفن الغرافيتي ووسائل التعبير البصرية. وانطلاقاً مما تقدم، بدأ الحراك المدني الشعبي الذي يشهده لبنان، يأخذ المنحى ذاته، بعدما فجرت أزمة النفايات في البلد «ثورة شبابية» على النظام والسلطة، مطالبة باستقالة وزيري البيئة والداخلية. تشهد الساحة اللبنانية منذ نحو شهر تقريباً، تظاهرات حاشدة وصاخبة للمجتمع المدني ولكل متضرر من فساد السلطة. لكن هذه التجمعات بدأت صغيرة وتوسعت وتمددت لاحقاً، إلى أن احتضنت 120 ألف متظاهر الأسبوع الماضي. لكن كيف واكب فنانون لبنانيون هذا الحراك الشعبي المطلبي؟ منذ أن توقف زياد الرحباني عن تقديم أغانٍ اجتماعية ومطلبية ساخرة، فقدت الأغنية كاتباً مهماً، يعرف كيف يوجه سهامه صوب السلطة، لكن بطريقة كوميدية ذكية وساخرة في الوقت ذاته. حاول البعض العمل على كتابة أغانٍ، لكنها افتقدت إلى الإبداع، وكانت مناسباتية. وقد تكون أغنية «شو عملتلي بالبلد» لزين العمر، من أبرز الأغاني الانتقادية التي قدمت في السنوات العشر الأخيرة، وكانت موجهة ضد سياسات رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. ومع التحركات الشعبية الأخيرة في بيروت، حاول فنانون قطف «ثمار الثورة» فقدموا أغنيات لكنها لا تخدم القضية لأنها مناسباتية ولم تكتب بعناية، إنما لركوب الموجة فقط. يمكن الحديث عن عملين برزا حتى الآن وهما «كلن يعني كلن» لفرقة الراحل الكبير التي لم تكن ممتازة، لكنها أفضل مما قُدّم، وعنوان الأغنية شعار رفعته مجموعة عالشارع اللبنانية المشاركة في الحراك الشعبي. يبدو أن الأغنية حُرّرت على عجل، لكن تاريخ الفرقة وغناءها المستمر ضد الإرهاب، ساهما في رفع أسهمها خصوصاً أنها أول من تكلم عن «فحص البول» الذي طلبه وزير الداخلية اللبنانية للمعتقلين، لمعرفة ما إذا كانوا قد تعاطوا أي مخدّر قبل المشاركة في التظاهرات. نبض الشارع وتبقى الأغنية الأشد التصاقاً بالحراك الشعبي والمطالب هي «نحن والزبل جيران» لناصر الدين الطفار والراس (مازن السيد) اللذين يعدا من أبرز مغني الراب في لبنان حالياً. يشعر المستمع إلى العمل بنبض الشارع، ويسمع صوت الهتافات والشعارات التي تتردد فيه. لغة شبابية بسيطة لكنها ذكية ولاذعة في الانتقاد، بعيدة من أي تفلسف أو نظريات للمؤامرة. كتب الشابان عملهما في الشارع، وسط الحشود. استمعا إلى ما يقوله الجمهور، والأهم من كل ذلك أنهما يعانيان من كل المشاكل التي يعاني منها الشعب، ولا يعيشان في قصر. فالطفار الآتي من البقاع اللبناني، تفتقد منطقته كثيراً من الخدمات، ويحاول بلغته الاحتجاجية إيصال هموم محيطه وناسه. فيما الراس (مازن السيد) آتٍ من طرابلس، المدينة الشمالية التي مزقتها الحروب الداخلية الصغيرة منها والكبيرة والتي باتت بؤرة للإرهاب. يريد الراس أن يمحو هذه الصبغة عن مدينته الحبيبة عبر ما يقدمه من أعماله ويقول: «أنا قصير مش أسير (نسبة إلى الشيخ أحمد الأسير المتورط في اعتداءات على الجيش اللبناني)». المقطع الذي يغنيه في أغنية «نحن والزبل جيران»، يعبر تماماً عما تريد قوله فئة كبيرة من الشباب الطرابلسي الذي خرج من ثوب الطائفة ليلبس ثوب الوطن. قد تكون اللهجة الاحتجاجية والانتقادية التي قدّمت في «نحن والزبل جيران» من الأعلى حتى الآن، نظراً إلى قوة مواضيعها. الشابان الغاضبان استعملا الراب لانتقاد السلطة وفسادها ورجال أمنها المعتدين على المتظاهرين (فوق في نجوم غرقاني بالوسخ، وتحت في عقول مقفلة بمعاش). وزير الداخلية لم يسلم من هذه الانتقادات، ولا أكبر الرتب العسكرية. يقول الشابان ما معناه أن الشعب سيبقى في ساحتي رياض الصلح والشهداء، مهما تعرض لضرب أو رش بالمياه أو إلقاء قنابل مسيلة للدموع. الأغنية رسالة إلى السلطة عن قوة الشعب وثباته على مواقفه، وانتقاد لكل من يريد أي خلاف بين سني أو شيعي، أو تبعية لأي دولة عربية. واللافت في الأغنية أنها تساوي ما بين ذكر وأنثى، فالثورة لا تفرق بين الجنسين. وانطلاقاً من هنا، كما توجهوا إلى الشاب اللبناني، غنوا للفتاة اللبنانية التي تشارك وبكثافة في الاعتصامات طالبين منها الانتفاض على الذكورية والتبعية ولعب دورها كاملاً في هذا الحراك الشعبي (همّشوكي، سعّروكي، ربّطوكي، قومي... ضريبة دم هيدي، مش ضريبة للحكومة). يكتب الطفار والراس بذكاء، وكل جملة في الأغنية تحمل مطلباً وانتقاداً، وهذا تحديداً ما تحتاجه التظاهرات، من يعبّر عن نبضها وجملها الشعبية، لا من ينمق شعاراتها. ويبدو أن الأعمال الملتزمة والجيدة ستبدأ الظهور تباعاً ومنها ما سيصدره الفنان زياد سحاب في اليومين المقبلين. تجدر الإشارة إلى أن فن الغرافيتي برز في شكل لافت خلال الحراك الشعبي في لبنان، خصوصاً على الجدار الاسمنتي الذي وضعته الدولة لحماية السراي الحكومي، لكنها أجبرت على إزالته بعد 24 ساعة بسبب الضغط الشعبي، وبعدما حوله المتظاهرون لوحة فنية.