من كان ليتخيّل ان هذا الفن الذي اصبح وسيلة لتوصيل قضايانا وافكارنا، موجود منذ آلاف السنين! فكلمة غرافيتي مشتقة منGraphein اليونانية. وكان الرسم على الجدران شائعا خلال الحضارات الفرعونية والأغريقية والرومانية، ثم تطور مع الوقت ليتحول اليوم الى فن الغرافيتي الحديث الذي يدخل تغييرات عامة على ملامح سطح ما، عن طريق استخدام بخاخ دهان أو قلم تعليم أو أي مواد أخرى. برز فن الغرافيتي الحديث في ستينات القرن الماضي في نيويورك بوحي من موسيقى الهيب هوب، وتحول لاحقا وسيلة لتوجيه رسائل سياسية واجتماعية، واحيانا الى شكل من أشكال الدعاية. يعتبر فن الغرافيتي احد أشكال التعبير الحر، لذا لا بد من مكان بارز لتجسيده. فجدران المباني العامة والأبواب والباصات والشوارع وغيرها، هي الأماكن المفضلة لفناني الغرافيتي. وغالباً ما تكون المدن الأكثر ازدحاماً والمراكز المهمة في اي بلد بين اولى الاهداف، خصوصا إذا كانت الرسومات تحمل رسائل معينة. وعلى الرغم من ان هذا الفن لا يلقى تغطية كافية من وسائل الإعلام، وتصرف السلطات العامة الكثير من الأموال لإزالة رسومه، انتشر "فن الشارع" وعبر حدود الكثير من الدول وتكرس في العديد من المدن، وشكلت بعض تعبيراته أعمالا فنية حقيقية. اما في زمن الأزمات الاقتصادية الذي نعيشه، فصار الغرافيتي يعكس المطالب الاجتماعية، ليتحول جزءا من حياة الناس اليومية. وفي اميركا اللاتينية، وتحديدا في تشيلي، تقول المدونة باتريسيا بارغاس ان هذا الفن شهد انتعاشا بسبب التظاهرات الكثيرة عندما حول المشاركون فيها الجدران امكنة للتعبير عن مطالبهم. فالباريسو، المدينةالتشيلية الساحلية ذات الميناء المهم والعمارات الفريدة، والطوبوغرافيا المليئة بالمفاجآت، حيث لعب الاهمال دورا مهما في تحفيز فن الشارع، وجعل المدينة معرضا دوليا للغرافيتي، يتسابق الفنانون المحليون للفوز بأزقتها وزوايا مبانيها. وحول الغرافيتي المدينة الى لعبة بصرية ذات انطباعات قوية تجعل المشاهد يتنقل بين جمالية الرسوم المصحوبة بشعارات سياسية بعضها ساخر. اما في بيرو، فاختار مقلد الأصوات العالمية بالإسبانية خوان أريلانو التدوين عن الغرافيتي في غابات الأمازون المطيرة. وقال ان بلاده ليست ودودة تجاه الغرافيتي بشكل عام، إذ تتخلص السلطات أو مالكي الجدران بسرعة من الرسومات، لذلك تفاجأ عندما رأى رسوما لم تعبث بها الأيدي وسط مدينة إكيتوس. كما سلط خوان الضوء على كيفية استخدام الغرافيتي كنوع من الاحتجاج من خلال هذه الصورة. وفي إيران، دعت صفحة على موقع التواصل الإجتماعي "فايسبوك" الى ما سمته "أسبوع الغرافيتي العنيف في إيران"، داعية الجميع إلى الرسم تكريماً لمئات السجناء السياسيين، فنزل الناس الى الشوارع وتركوا بصماتهم على القمصان والملابس والأسوار والمنازل. واستلهم الايرانيون الفكرة من "أسبوع الغرافيتي العنيف" في مصر الذي جذب آلاف المتابعين والمؤيدين إلى التظاهر ضد نظام مبارك. اما الغرافيتي في مصر فكان من أجل "ثورة ملونة وذاكرة لا تموت". ومنذ الأيام الأولى للثورة المصرية، تبنى الثوار طريقة أسلافهم لتوثيق احداثها، عبر نقشها على جدران ميدان التحرير وسط القاهرة، معقل المتظاهرين، ولكن حمى الكتابات والرسوم الجدرانية ما لبثت ان تجاوزت ميدان التحرير لتطاول جدران القاهرة كلها. وشاعت الرسوم حتى بعد سقوط النظام. وعكس الفنانون في انتاجهم مراحل الثورة المختلفة، معتبرين الجداريات وسيلة لإحياء ذكرى شهدائها. وكان للثورة السورية حصتها ايضاً من الغرافيتي، وتحول الرّسم احد اهم وسائل التعبير عن الأفكار واسرعها في توضيح فكرة ما وجعل النّاس يتفاعلون معها. وكانت شرارة الثورة السورية انطلقت مع الغرافيتي الشهيرة التي خطها اطفال من درعا على جدار مدرستهم وأدت الى اعتقالهم وموت احدهم تحت التعذيب، واطلاق تظاهرات الاحتجاج. ويبلغ فنّ الغرافيتي ذروته في الفترات التّي تشهد تغيرات سياسيّة واجتماعيّة، ويصبح شكلاً من أشكال القوّة العامة لمقاومة السلطة. فينتقي فنان أو مجموعة من الفنانين شارعاً مكتظاً لنقل رسائلهم عبر الكلمات أو الصورة أو كلاهما، والتّي تنطوي في معظم الاحيان على سُخرية مريرة. تُثير قوّة الغرافيتي، باعتباره وسيلة للتّعبير الحرّ، قلقاً متزايداً لدى الحكومات والأنظمة. فتلجأ الى التّدابير القمعيّة لإسكات صوت الشّارع، ومن أفضل الأمثلة على ذلك ما حدث في بريطانيا مع قانون السّلوك غير الاجتماعي للسنة 2003 وتوقيع النواب على بند يعتبر ان "الغرافيتي ليس فناً، بل جريمة". اما في لبنان، فقلما تمر بحائط من دون ان تقرأ شعارات سياسية او حزبية او دينية عليه، او رسائل خاصة بين حبيبين، او رسائل عامة عن الاوضاع او شكاوى، او حتى رسومات فنية هادفة. وادى ذلك احيانا الى اعتقالات في صفوف الفنانين بتهمة تخريب الممتلكات العامة. وتقول الشابة الفلسطينية براء منصور انها تجد في الغرافيتي مساحة حرة للتعبير عن كل مكنوناتها ولخدمة قضيتها، وخصوصا انها ترسم على حيطان منزلها في مدينة صيدا الجنوبية. براء التي تعالج برسوماتها قضايا سياسية وإجتماعية وفنية، تعتبر ان الهدف من رسم الشخصيات ليس فقط توصيل رسالة، بل في كثير من الأحيان يكون الرسم وسيلة تعريف بالشخصية نفسها. وتضيف ان هذا النوع من الفن لا يحتاج الى دراسة، بل يمكن للمرء عبر التمعن والشغف بلورة الصورة التي في رأسه، فيما تبقى الرسالة من ورائها هي الأساس.