لم يكد أبو عبدالله يضع قدمه على ضفة كورنيش الحمراء في جدة حتى تلثم بعمامته وفر هارباً يجر يدي صغيره وزوجته من الرائحة المقرفة التي تملأ المكان. وعلى رغم كثرة الشواطئ والأحياء التي تحمل مسمى الحمراء في مختلف أنحاء العالم، ويحمل معظمها طابع الرقي والجمال، إلا أن «حمراء جدة غير» كما يقول أبو عبدالله، «وشواطئه كأنها مستنقعات، تنبعث منها روائح كريهة تصيب المزاج الذي ينشد النزهة والترويح بلوثة تلازمه وتضرب مخططاته في صميمها». وليس في وصف أبي عبدالله لتلوث حمراء جدة أي مبالغة، إذ تدعمه شهادات كثيرة من خبراء البيئة الذين يحذرون من هذا التلوث، ويؤكدون أنه يهدد مرتاديه بالتسمم والأمراض السرطانية، نتيجة تصريف مياه الصرف الصحي في البحر، وتخفيض منسوب المياه الجوفية المحتوية على مواد سامة، وكذلك تؤكده بعض تقارير الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة، وأمانة محافظة جدة. الذي يقف مكرهاً على شاطئ الحمراء لا يملك إلا أن يتساءل عن سبب وجود بعض الأسر والمتنزهين بأطفالهم وعتاد الطبخ والشوي وسط هذه الروائح الكريهة، ومن ثم يبدأ في وضع احتمالات إجابات لهذا التساؤل. ترتفع احتمالات الإجابات وتسمو في المخيلة، وتنخفض وتهبط، فتكون في أرقى الأحوال وأعمقها روحانية، أن هؤلاء المتنزهين بلغوا مرحلة في التأمل الروحاني والفكري انفصلوا فيها عن الزمان والمكان والواقع، وباتوا يحلقون في عالم سماوي لا تؤثر فيه قذارات الدنيا وقبحها. بعض الإجابات عن التساؤل تقول: إنه ربما لم يجدوا مكاناً آخر، لكن أسوأها وأدناها تلمح بأسى وعجب إلى أنهم اعتادوا هذه الروائح العفنة وهذا الشاطئ المريض!. الأسوأ حالاً من رواد شاطئ الحمراء، إذ يملكون خيار الرحيل على الأقل، هم الساكنون على جنباته. المخدوعون بشائعة وفرضية رقي أحياء الحمراء التي تنتشر في العالم، وغابت عنهم حقيقة خصوصية السعودية و«غيرية» مدينة جدة تحديداً (غيرية من شعار جدة غير)، فكان أن تبعوا خرافة الرقي واشتروا التلوث الناقع في شاطئ الحمراء والهواء المقرف الذي يشبع أجواءه... بأغلى الأثمان.