تعيش النخبة الثقافية العربية في الغرب حالة من الخيبة والتراجع شبيهة بتلك الحالة التي كانت عليه هذه النخبة في موطنها الأصلي، ورغم أن هذه النخبة غادرت موطنها الأصلي باتجاه عواصم المنفى بحثًا عن الهامش الواسع للحريّة والإبداع، فإنها أصيبت بخيبة أمل كبيرة، بل الأكثر من ذلك أنه تعطَّلت لديها حركة الإبداع؛ وذلك يعود لأسباب عديدة، منها : فقدان النسيج الثقافي العربي؛ حيث أغلب العرب الموجودين في الغرب تهمُّهم العملة الصعبة أكثر من الهمّ الثقافي والقضايا العربية، ومنها انقطاع تواصل هذه النخبة مع المنابر الإعلامية والثقافية العربية؛ الأمر الذي أدى بها إلى أن تعيش عزلة حقيقية انعكس كل ذلك على أدائها الإبداعي الذي انطفأ مع مرور الأيام والشهور . ولم تتمكن هذه النخبة من الانخراط في الخارطة الثقافية الغربية؛ لأن ذلك يتطلب تعري ًا كاملاً، ونفض كل المنطلقات الفكرية الكائنة في شعور ولا شعور النخبة العربية، وحتى إذا كُتب لهذا المبدع أو الكاتب أن يجد حيز ًا صغيرًا ضمن الخارطة الثقافية الغربية، فإن ذلك يدخل في سياق التوظيف، وفي سياق زركشة الديكور لتتحقق مقولة القبول بالآخر، هذا الآخر الذي فقد ما به من تميز، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من الأنا الغربية، وبالتالي يكون إنتاجه امتدادًا للمنظومة الثقافية في الغرب . المنفى الثقافي ومما يدعو إلى التعجب أكثر أن النخبة العربية نقلت معها إلى عواصم المنافي نفس الإشكالات الثقافية السائدة في العالم العربي، كما لو أن السجال ما زال في العالم العربي، وعرض أن تلجأ هذه النخبة ذات المشارب الفكرية المتعددة إلى إيجاد قواسم مشتركة فيما بينها، في محاولة لإيجاد أطروحة جديدة، قد تساهم في بلورة مشروع نهضوي جديد، إلا أنها ما زالت تعيش بالذهنية القديمة، وما زالت الخلافات والتنابز بالألقاب وتبادل التهم هي سمة النخبة التي يفترض أنها هاجرت من أجل مواصلة الإبداع . . وبات لكل توجه ثقافي ناديه ومنبره، وبين هذا النادي والنوادي الأخرى كل أنواع الحروب الكلامية التي بدع فيها العرب، وتجد كل جمعية ثقافية تسعى للإيقاع بالجمعيات الأخرى لدى السلطات الغربية هنا وهناك، وأصبح الهم هو الحصول على الأموال المخصَّصة لمساعدة الجمعيات الثقافية . الظاهرة الأخطر وهناك ظاهرة على غاية من الخطورة والتعجب بدأت تسود وسط النخبة العربية المثقفة، ويمكن توضيحها بما يلي : وجد العديد من الكتاب والصحافيون والمبدعون الذين لجؤوا إلى عواصم المنفى أنفسهم في بطالة كاملة، ويعيشون من خلال المساعدة الاجتماعية المحدودة التي تقدمها الدولة للاجئين، ولم يتمكنوا من الحصول على موقع عمل في الدوائر الثقافية والإعلامية، وباتوا يعيشون في وضع نفسي صعب سهَّل مهمة بعض الجهات التي يهمها إفراغ رؤوس هؤلاء المثقفين والصحافيين من كل المعلومات، وكان التعامل سهلاً بين هذه الجهات والذين باعوا ضمائرهم ومبادئهم وأخلاقهم وأمتهم، وأصبحوا عملاء بامتياز يعرف الغربيون من خلالهم كل صغيرة وكبيرة عن العالم العربي والإسلامي، وأحيانًا ي ُكلَّف هؤلاء برحلات ميدانية إلى العالم العربي، وهم أقدر على التسلل إلى أبناء جلدتهم والعودة بتقارير وافية عما تريد هذه الدوائر معرفته . وتحوي مراكز الدراسات الإستراتيجية في الغرب العديد من الكفاءات العربية التي تساهم في إفهام دوائر القرار مَن نحن، وكل شيء عن سياستنا واقتصادنا وفقهنا وحياتنا ومماتنا، وما دامت العملة الصعبة موجودة فكل صعب يهون ! . لكن هذا لا يعني أنه لا توجد نخبة ما زالت محافظة على طهرها الثقافي والسياسي، وتعمل جاهدة على الاستفادة من محاسن الحضارة الغربية، ومحاولة تصحيح فكرنا العربي وإردافه بعوامل القوة حتى يتحول إلى ديناميكية؛ لإخراج الواقع العربي والإسلامي من عنق الزجاجة !! .