أكثر من باحث ومحلّل اقتصادي غربي رأى أن عصر العولمة وفوضاه الاقتصادية والمالية، وتخبّط شركاته المتعدّدة الجنسيّة العابرة للقارات، هو الذي جاء ب سيلفيو برلسكوني إلى السلطة في إيطاليا ثلاث مرّات، وهو الذي أطاح به أيضاً؛ ذلك أن هذا العصر العولمي تعثّر في ثورته الليبرالية، ولم يستطع الإيفاء بوعوده في بناء اقتصاد جديد ومنتج، ليس لإيطاليا فقط، وإنما لعموم بلدان الغرب، أو الشمال؛ بدليل الانهيار المالي الخطير الذي حصل في وول ستريت في الولايات المتّحدة في العام 2008، والذي انسحب بتداعياته على اقتصادات العالم في مجملها، وخصوصاً على الاقتصاد الأوروبي، حيث كان السقوط مدوياً مثلاً، في اليونان، البلد الذي رزح تحت مديونية فاقت ال 200 مليار دولار، ولم تنجح معه مختلف الاستنفارات المُعالجة لاقتصاده، من طرف "مجموعة العشرين" حتى الآن، على الرغم من شطب مائة مليار من هذه الديون. وفي الوقت الذي كان العالم ينظر إلى إسبانيا والبرتغال وإيرلندا، على أنها الدول المرشّحة أكثر من غيرها للسقوط الاقتصادي بعد اليونان، تفاجأ الجميع بأزمة الاقتصاد الإيطالي.. هذا الاقتصاد الذي يشكّل ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو بعد ألمانيا وفرنسا. فلقد وصلت مستويات الديون في إيطاليا إلى 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي؛ وباتت هذه الديون تشكّل مخاطر أكبر على الأسواق الماليّة في أوروبا والعالم. ومن هنا شهدت إيطاليا حراكاً سياسياً وشعبياً قوياً واستثنائياً في الآونة الأخيرة، تمثّل في اختلاط جمهور اليمين باليسار (من خلال أحزاب الجهتين) وتشكيل ائتلاف سياسي وشعبي نادى بسقوط حكومة برلسكوني، ودعم حكومة جديدة أعلن عنها بالفعل منذ أيام، برئاسة البروفسور ماريو مونتي، المفوّض السابق في الاتّحاد الأوروبي، اقتصر وزراؤها على فئة التكنوقراط، وضمّت 16 وزيراً، بينهم ثلاث نساء، واعتبرت حكومة طوارىء اقتصاديّة تاريخيّة، مهمتها إنقاذ اقتصاد إيطاليا، واستطراداً اقتصاد الاتّحاد الأوروبي كلّه قبل فوات الأوان. وربما لهذا السبب تولّى رئيس الحكومة الجديد بنفسه حقيبة الاقتصاد، مشدّداً في تصريحٍ له بُعيد التشكيل، أن أمام الوزراء سباقاً نحو تحقيق أهداف إيطاليا، وفي مقدّمتها استعادة ثقة الأسواق المالية في الداخل والخارج، والسيطرة على الدين العام. لماذا أزمة الاقتصاد الإيطالي؟ يعزو خبراء في الشأن الاقتصادي الإيطالي مؤشرات الانهيار المالي الكبير في البلاد إلى أزمة الدين العام. وهي في الحقيقة مشكلة مزمنة في إيطاليا، لكن المفاجىء فيها، والذي جعلها تطفو على السطح كأزمة حادة، جديدة ومتجدّدة، هو ردّ الفعل السريع من حكومة سيلفيو برلسكوني، التي أطلقت حزمة تقشّف قاسية، ولكن على ما يبدو في الوقت الضائع. إذ سرعان ما شهدت الأسواق المالية المحليّة بعدها ارتفاعاً مطّرداً في تكلفة الدين العام، وصلت إلى مستويات قصوى وخطيرة اقتربت من 7%.. الأمر الذي فاقم مزيداً من فقدان الثقة الشعبية بسياسة برلسكوني وقدرته على اجتراح حلّ ناجع للأزمة الاقتصادية المتمادية. ومع أن تفاصيل خطة التقشّف التي تقدّم بها برلسكوني تتضمّن: رفع نسبة ضريبة القيمة المضافة، فرض ضريبة على الأغنياء، تخفيض الإنفاق الحكومي، إنفاق المجالس المحلية ومكافحة التهرب الضريبي؛ إلا أن الجميع لم ينظر إليها بعين الثقة، سواء من القادة الأوروبيّين، وعلى رأسهم ساركوزي وميركل، أم البنك الدولي، أم صندوق النقد الدولي، أم الاتّحاد الأوروبي أيضاً، الذي دعا ناطق باسمه حكومةَ برلسكوني إلى تقديم خطّة واضحة المعالم ومحدّدة لتحفيز النموّ الاقتصادي كشرطٍ أساسيّ لحصول روما على مساعدات مالية من شركائها الأوروبيّين لمواجهة أزمة ديونها. فور تقديم برلسكوني استقالة حكومته للرئيس الإيطالي جورجيو نابوليتانو، ضجّت شوارع روما ومدن إيطالية أخرى بجموع المحتفين برحيله. من جهة أخرى شكّل إعلان استقالة برلسكوني ارتياحاً في أوساط الاقتصاديّين والمستثمرين المحليّين والأجانب في إيطاليا، وأملوا خيراً بانتظام أمورهم.. وكذلك تنفس الصعداء مسؤولو البنوك الكبرى في إيطاليا وأوروبا .. فضلاً عن المفوّضية الأوروبية، وصندوق النقد الدولي، الذي أصدر بياناً في المناسبة جاء فيه: " الآن يمكننا القول بأن مسيرة الإصلاح المالي والاقتصادي في إيطاليا يمكن أن تبدأ بدايةً جدّية وواثقة، ويؤمل منها الكثير". اقتصاد لا ينمو على الإطلاق هل كان برلسكوني (75 عاماً) الذي حكم إيطاليا ثلاث مرّات خلال ال 17 عاماً الأخيرة هو المسؤول الوحيد عن تدهور أحوال الاقتصاد في بلده ووصولها إلى هذا المصير المأسوي والمخيف بتداعياته اليوم؟ بالتأكيد لا.. يقول المحلّلون الاقتصاديّون.. فالأمر يتعلّق، من وجهة نظرهم، بأزمة الليبرالية الرأسمالية المتطرّفة، وسعيها إلى مراكمة الربح على حساب كلّ القيم التي تحدّث عنها أبو المنظّرين الكبار للرأسمالية في الغرب "جون مينارد كينز" الذي كان يدعو إلى اقتصاد مختلط ورحيم، وكان يبدي اختلافاً مسبقاً مع أيّ نوع من أنواع السوق الحرّة، ويدعو إلى تدخّل الدولة في بعض المجالات الاقتصادية المركزية. وهو ما تجاوزته الرأسمالية الجديدة في المجتمع الغربي ما بعد الصناعي، والتي بلورت إجمالاً اقتصاداً مبنيّاً على الخدمات والربح السريع، أكثر منه على الإنتاج.. وبإسم حرية اقتصادية بلا ضوابط، أدّت إلى ما أدّت إليه من كوارث بحقّ الرأسمالية ودولها ومجتمعاتها سواء بسواء، حتى صرنا نسمع أصواتاً في أميركا وأوروبا تدعو علناً إلى تدخل الدولة في الاقتصاد، واعتماد شيء من التقييد الذي كان معمولاً به في الأنظمة الاشتراكية السابقة. لكن هذا كلّه لا يعني أن برلسكوني لا يتحمّل المسؤولية الأساسية حول ما آلت إليه أحوال الاقتصاد والانهيارات المالية في إيطاليا. فهو قبل أن يتبوأ السلطة، أوهم الإيطاليّين بأنه الأقدر على تحقيق رخاءٍ اقتصادي في البلاد، انطلاقاً من مبدأ "هلامي" لديه يقول بأن "التصوّر هو الواقع". يقول د. ألبيرتو إليسينا المحاضر في جامعة هارفرد تعليقاً على حقبة برلسكوني: " إيطاليا في زمن برلسكوني(وما زلنا فيه) عانت من مشكلات اقتصادية مختلفة عن تلك التي نراها في اليونان وإسبانيا وإيرلندا: اقتصاد راكد من دون نموّ منذ 17 عاماً، ودين عام ارتفع إثر الأزمة، بعدما كان في الأصل مرتفعاً جداً. إنه اقتصاد لا ينمو على الإطلاق". ويضيف محلّل اقتصادي إيطالي آخر اسمه باولو ديلليتاري قائلاً: " أحيا برلسكوني عصابات المافيا الإيطالية من جديد". وبالفعل ذكرت إحصاءات صادرة عن جمعية التجارة الإيطالية في روما أن عصابات المافيا باتت تسيطر على 20% من القطاع الإيطالي الخاص. وأن إيرادات هذه المافيا تبلغ نحو مئة وثلاثة وثلاثين مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل 15% من الناتج القومي الإجمالي للبلاد". وبفضل عصابات المافيا، وبحسب وثيقة أصدرها مؤتمر "جمعية التجارة الإيطالية" في ميلانو، بات من المعروف أن إيطاليا تحتلّ الآن المرتبة الخامسة بين أكثر دول العالم في إنتاج السلع ذات العلامات التجارية المزوّرة بعد تايوان، وكوريا الجنوبية، وتايلاند، والصين. شخصية برلسكوني تقدّر ثروة برلسكوني بحوالى 17.350 مليار دولار.. عدا الأملاك والأراضي الشاسعة المسجّلة باسمه في غير مكان في إيطاليا وأوروبا وأميركا. وحراك برلسكوني الاجتماعي والسياسي والمالي كان جاذباً جداً، حتى قيل فيه إنه يجمع في شخصه بين ثروة بيل غيتس الطائلة، واحتكار روبرت مردوخ الإعلامي، وشهرة أرنولد شوارتزينغر السينمائية. فلقد حوّل نفسه عبر مرآة إعلامه، وإعلام الغير (يمتلك هو 3 محطات تلفزيونيّة كبرى في إيطاليا) إلى دونجوان هوليوودي يعشق النساء والفضائح، خصوصاً المراهقات منهنّ.. وكان لا يأبه لما تنشره الصحف المضادة عنه من مسلسلات فضائحيّة أخلاقية شبه مستمرة، بل يعتبر ذلك جزءاً من الدعاية الانتخابية له.. كشخص محب للحياة وغير تقليدي "وشباب دائم": "نعم أنا لست عجوزاً جدِّياً في السياسة، كما في الحياة.. أنا مرح كالشمس، وأحب ألوان الحياة كلّها.. أنا إيطالي وإيطاليا جميلة، ومن يحكم إيطاليا يجب أن يكون مرحاً وجميلاً مثلها". والإيطاليون (خصوصاً الشباب منهم) مثل الأميركيّين يعشقون الرئيس/ الدونجوان؛ ولكن في أيام البحبوحة والرخاء، وليس طبعاً في أيام العسر والضيق، إذ ذاك يحوّلون صورة الدونجوان إلى نقيضها، ويعاقبونه على طريقتهم، بإزالته من عموم مشهدهم اليومي. هكذا مثلاً قامت في روما قبل أقلّ من سنة مظاهرة نسائية مليونية ضدّه، وضدّ مغامراته اللاأخلاقية مع المراهقات الإيطاليات والأجانب، رفعت فيها النساء في وجهه أرذل النعوت والتوصيفات.. وكان لهذه التظاهرة أثرها السلبي عليه، خصوصاً في الأرياف الإيطالية المحافظة والمتديّنة جداً. إيطاليا بعد برلسكوني، هي ولا شكّ، غيرها بعده. إنها إيطاليا ثانية، مختلفة، تتحدّى معضلة اقتصادية، ليس من السهل البتّة الخروج منها. وهي ولا شكّ ناتجة عن سياسات فاقدة للتخطيط الجدّي "وخاضعة لسلطة المافيات والتروستات المالية الكبرى" بحسب باولو ديللتياري. وهذا السيناريو الاقتصادي الفوضوي، والواسع الفلتان لديه، من شأنه، ليس أن يقود إيطاليا وحدها إلى حافة الهاوية؛ بل العالم الحرّ كلّه أيضاً.