تسارعت وتيرة المفاوضات بين واشنطن وبغداد مع اقتراب نهاية عام 2008، موعد انتهاء التفويض الدولي للقوات الأمريكية في العراق، وسط ضغوط أمريكية كثيفة على العراق من أجل التوصل لاتفاقية أمنية وسياسية تنظم العلاقة بين الاحتلال والعراقيين، وتضع أسسا قانونية تشرع الاحتلال الأمريكي للعراق في يوليو المقبل، وسط مؤشرات عن خلافات بين الطرفين بسبب المطالب الأمريكية المجحفة التي تلغي السيادة العراقية وتهدر ماء وجه حكومة المالكي . وبرغم سعي الحكومة العراقية الحالية برئاسة نوري المالكي طمأنة العراقيين إلى أنها - وفق الناطق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ - " لن تتهاون بحقوق العراقيين وسيادتهم على بلدهم، وعدم قبول أي بند ينتقص من السيادة " ، فإن تسريبات أمريكية وعراقية أكدت أن المطالب الأمريكية لم تتغير وأنها تتركز على وجود قواعد عسكرية أمريكية شبه دائمة تتجمع فيها القوات الأمريكية الموجودة في العراق حاليا، فضلا عن استمرار منح القوات الأمريكية وقوات المرتزقة في شركات الحماية " المتعهدون " حصانة قضائية تحميهم من المساءلة من قبل الشرطة العراقية، وتمنع محاكمتهم أمام محكمة جرائم الحرب التي تشكلت عام 2004وهذا بخلاف مطالب أخرى أخطر تتعلق بإبرام اتفاقيات طويلة الأمد لسيطرة شركات نفط أمريكية على آبار العراق وتصدير النفط العراقي لأمريكا بأسعار مجحفة، ومطالب أخرى تتعارض مع المطالب العراقية تماما من مثل منح القوات الأمريكية السيطرة على الأجواء العراقية البرية والبحرية والجوية ( الاحتفاظ بحق السيطرة على الأجواء العراقية حتى ارتفاع 29 ألف قدم ) والقيام بأعمال عسكرية دون إذن حكومة بغداد بدعاوى محاربة الإرهاب .وعلىحين يهدد العراقيون باللجوء إلى مجلس الأمن للتمديد ل " قوات التحالف " في العراق - ومن ضمنها القوات الأمريكية - إذا فشل التوصل لاتفاق أمريكي عراقي، يرى محللون أن الاتفاق أو عدم الاتفاق مع حكومة بغداد لن يؤثر في استمرار السيطرة الأمريكية على العراق واحتلاله بالقوة المسلحة، وأن أقصى ما سيقدمه هذا الاتفاق من مزايا للقوات الأمريكية أنه سيجعل وجودها شرعيا، فيما سيحفظ ماء وجه الحكومة العراقية أمام مواطنيها وكأنها هي من أعطت هذه الامتيازات للأمريكان خصوصا في ظل التنديد السني والشيعي بالاتفاق سواء بالرفض المطلق أو التحفظ على بعض البنود . تفاصيل المعاهدة ..كارثة برغم أن تفاصيل المعاهدة التي يجري التفاوض بشأنها - والتي اتفق عليها في نوفمبر 2007 في مذكرة التفاهم بين رئيس الوزراء نوري المالكي والرئيس الأمريكي جورج بوش - سرية، ولم يعلن أي شيء عنها، فقد سربت مصادر عراقية مسودة هذا الاتفاق السري بين الحكومة العراقية وإدارة بوش، والذي كشف عن صيغة تبرر الوجود العسكري الأمريكي لأجل غير مسمى، وتسعى لإحلال القوات الأمريكية محل الأممالمتحدة هناك بما يبيح للولايات المتحدة القيام بعمليات عسكرية غير محدودة في العراق واستباحة أرضه وسمائه ومياهه ولو ضد دول الجوار . ويمكن تلخيص أخطر ما في هذا الاتفاق فيما يلي : يستهدف الاتفاق البحث عن صيغة قانونية قبل انتهاء عهد الرئيس الأمريكي الحالي بوش تضمن بقاء القوات الأمريكية بشكل شرعي في العراق وتوفير ما بين 4 و12 قاعدة عسكرية دائمة أو غير دائمة في الأراضي العراقية؛ بغرض إظهار إدارة بوش على أنها خرجت منتصرة من الحرب، وبما يسمح بسحب جزء من القوات هناك لتخفيف ضغط الديمقراطيين وغالبية الشعب الأمريكي المعارضين لاستمرار الوجود الأمريكي؛ بسبب حجم الخسائر البشرية هناك، والتي أخطرها ليس القتل ) ) 4000 وإنما الإصابة، خصوصا المرض العقلي والنفسي الذي تقول التقارير الطبية الأمريكية إن ٪38 من الجنود العائدين يعانون منه . يسعى الاتفاق للتوصل لصيغة لإقامة قواعد عسكرية أمريكية دائمة أو مراكز لتجمع هذه القوات، كبيرة جدا وبعيدة عن أماكن التجمعات السكانية والمدن الكبيرة، وتشير تقارير عراقية في هذا الصدد إلى أن واشنطن تدرس فكرة استخدام المعسكرات القديمة للجيش العراقي كمراكز تجمع تتحول لقواعد دائمة في المستقبل بحيث يجرى تجميع هذه القواعد العراقية ) 106 قواعد ) إلى 14 قاعدة موزعة على أرجاء متفرقة من العراق بما يضمن سيطرة هذه القوات على أنحاء العراق، ويمكن تحويلها لأربع قواعد عسكرية كبرى مستقبلا هي : " قاعدة السعد " في غرب العراق، و " قاعدة بلد " في الوسط، و " قاعدة أربيل " أو " القيارة " في الشمال، و " قاعدة في جنوب العراق غير محددة " ، بحيث تتكامل مع القواعد الأمريكية في الكويت والخليج، وهو ما يعتبره خبراء عسكريون مقدمة لتنفيذ المخططات الأمريكية في المنطقة لتطويق إيران وربما ضربها . بحجة الإرهاب والأخطار الخارجية خصوصا إيران يطرح الأمريكيون في الاتفاق فكرة قيام القوات الأمريكية بالإشراف على وزارتي الداخلية والدفاع والاستخبارات العامة لمدة عشر سنوات؛ ما يعني إلغاء السيادة العراقية تماما وتحويل هذه الأجهزة لحماية قوات الاحتلال والدفاع عن مصالح المتحالفين معها ووضع العراق تحت الوصاية الأمريكية . تسعى معاهدة الوصاية الأمريكية لتوقيع اتفاقيات نفطية بعيدة الأمد مع العراق تعطي لشركات النفط الأمريكية السيطرة على الآبار العراقية بما يضمن إمداد العراق لأمريكا بالنفط لسنوات طويلة بأسعار أرخص من الأسواق العالمية ضمن ما سمي " قانون النفط الجديد " الذي يمنح الشركات الأمريكية حقوقا وامتيازات تسمى " بالمشاركة " التي تستمر إلى نحو 33 عاما .ونشيرهنا لقول " مايكل كلير " مدير برنامج دراسات السلام والأمن العالمي في ندوة عقدت في معهد تشاتهام هاوس في لندن يناير الماضي : إن سياسة واشنطن الخارجية بشأن إرسال قوات عسكرية إلى بلدان أخرى في العالم مرتبطة بشكل أساسي بحاجة أمريكا للنفط التي تزيد عن حاجات النفط والطاقة لدى أي دولة أخرى في الغرب . وتأكيده في ندوة : القوة العسكرية وسياسة أمريكا الخارجية النفطية أن ٪75 من عمليات المواصلات والتنقل في أمريكا تحتاج للنفط . تسعى المعاهدة للإيحاء بوجود علاقات دبلوماسية بين طرفين سياديين وفتح سفارة أمريكية في العراق، بيد أن المعلومات التي نشرت عن هذه السفارة الأمريكية في العراق تشير لأبعاد أخرى تتعلق بنظرية الوصاية على العراق وتظهر السفارة كدولة داخل الدولة العراقية؛ إذ إنها من أكبر السفارات في العالم على الإطلاق، فمساحتها 104 هكتارات وبها 21 مبنى ضخما وتتوفر فيها آخر مقتنيات العصر في توفير الراحة والأمن ووسائل الاتصال، وحتى السينما والمسرح وحمامات السباحة والمطاعم موجودة بها، وقد بلغت تكلفة هذه السفارة ما بين 750 مليون دولار إلى بليون دولار؛ ما يحولها لمركز لإدارة المهمات العسكرية والدبلوماسية في العراق وفي الشرق الأوسط كله مستقبلا . حصانة المحتل والمرتزق ويعتبر المطلب الخاص بحصانة الجنود الأمريكان وكذا مرتزقة شركات الأمن الأمريكية الخاصة من أخطر المطالب الأمريكية في العراق بالنظر لجرائم هؤلاء في الآونة الأخيرة . وكانت حادثة إطلاق مرتزقة من شركة " بلاك ووتر " الأمريكية - التي تعمل في العراق بموجب عقد مع وزارة الخارجية الأمريكية - النار عشوائيا على المواطنين العراقيين وقتل 11 منهم أثناء مرافقتهم لموكب دبلوماسي أمريكي العام الماضي قد فتحت باب الجدال حول أنشطة هذه الشركات في العراق، وكشفت هشاشة " سيادة " حكومة العراق الموالية للاحتلال . ففي أعقاب الحادث مباشرة أمر وزير الداخلية العراقي بسحب ترخيص شركة بلاك ووتر للحمايات الأمنية على خلفية جريمة " ساحة النسور " في بغداد؛ ما يعني طردها من العراق، ولم يمض 24 ساعة حتى تراجع رئيس الحكومة العراقية عن قرار وزير داخليته، وقال متحدث باسم الحكومة العراقية إنها قررت " وقفا " ( مؤقتا ) لترخيصِ شركة بلاك ووتر الأمنية الخاصة بعد أن كانت أعلنت إلغاءه إثر مجزرة بغداد، وربط مراقبون التراجع في موقف حكومة نوري المالكي بمكالمة هاتفية تلقاها من وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس قدمت فيها اعتذارا شخصيا وليس رسميا بخصوص الهجوم .ولوتصورنا أن هؤلاء المرتزقة هم من يقدمون الحماية لكافة أعضاء الحكومة العراقية وعلى رأسهم رئيس الوزراء المالكي نفسه، فضلا عن حمايتها للبعثات الدبلوماسية الأجنبية ومصالح شركات النفط الأمريكية وغيرها، لأدركنا أن قرار تراجع حكومة العراق عن " إلغاء " ترخيص شركة بلاك ووتر أي إنهاء عملها هناك وتحويله لقرار " وقف " مؤقت لن يؤثر على استمرار أنشطتها، كان أمرا متوقعا وأنه يصعب أن تصدر الحكومة هناك مثل هذا القرار بإبعاد هذه الشركة نهائيا . والأكثر جرأة وغرابة أن شركة بلاك ووتر رفضت الأوامر الصادرة إليها من حكومة المالكي بحجة أنها ملزمة بأوامر السفارة الأمريكية لا الحكومة العراقية (!)، ووصل الأمر بها لإصدار بيان يسخر من وزير الداخلية العراقي الذي أمر في البداية بإلغاء ترخيص عملها في العراق، حيث أعلنت الشركة أنها موجودة بالعراق قبل تشكيل وزارة الداخلية، وأن العقد أُبرم مع السفارة الأمريكية في العراق لا مع الحكومة العراقية أو وزارة الداخلية، وأنها ملزمة بأوامر السفارة الأمريكية لا الحكومة العراقية !! بل كشف النقيب " علي خلف " في استخبارات وزارة الداخلية العراقية ببغداد لصحف أجنبية أن الشركة ما تزال تعمل في شوارع بغداد دون أن تكترث بقرار حكومة العراق متذرعة بأن أي قرار رسمي لم يصل إليها بعد، ومشترطة أن تكون الأوامر صادرة إليها من السفارة الأمريكية وليس من وزارة الداخلية، كون الشركة موجودة بالعراق قبل تشكيل وزارة الداخلية، وأن العقد أُبرم مع السفارة لا مع الحكومة العراقية . ولهذا اضطر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ل " حثِّ " السلطات الأمريكية في بغداد على استبدال شركة بلاك ووتر للحماية الأمنية بشركة أمنيَّة أخرى بعد أن رفضت الشركة الأوامر الصادرة إليها من حكومته .والحقيقةأنه لولا حالة الغضب التي عمت الشارع العراقي ومطالبة غالبية القوى السياسية بطرد هذه الشركة المرتزقة وغيرها من الشركات العاملة في العراق وزيادة الشعور المناهض للأمريكيين في العراق ورفض الشركة نفسها الانصياع لقرار المالكي، لما قرر المالكي تخفيف القرار من المنع الكلي ل " الوقف " المؤقت لعمل الشركة؛ لأن سيادة العراق الحقيقة هي بيد قوات الاحتلال وشركات المرتزقة التي يفوق تعدادها تعداد قوات الاحتلال نفسها، وهذا نموذج واحد لما ترغب واشنطن في تقنينه رسميا في العراق . والذي لا يعلمه كثيرون هو أن هذه الشركات المرتزقة العاملة في العراق تعمل وفق مرسوم وضعه الحاكم الأمريكي للعراق عقب احتلاله بول بريمر، فوفقا للعقود المبرمة معها واستنادا كذلك إلى المرسوم الذي أصدره الحاكم الأمريكي السابق في العراق بول بريمر عام 2004 والمسمى " القاعدة " 17 ، فإن " القوات الأمريكية والمتعددة الجنسيات ورعايا هذه الدول المقيمين في العراق والشركات الأمنية الخاصة " معفون من أي مساءلة قانونية أمام المحاكم العراقية ولا يشملهم القانون العراقي "! وبالتالي فليس للحكومة العراقية الحالية أي سلطة على هؤلاء المرتزقة وليس لهم أي سند قانوني يخولهم سحب ترخيص بلاك ووتر، أو أي من الشركات الأمنية الخاصة، بل لا تستطيع الحكومة - قانونا - محاكمة أي مجرم من هذه الشركات ارتكب مجازر بحق المدنيين؛ لأن هذه الشركات الأمنية الخاصة في العراق تتمتع نظريا بحصانة دبلوماسية وتتوقف الملاحقات القضائية المحتملة ضدها على القرار السياسي .