حي قويزة في شرقي جدة ومعه عدد من الاحياء المتضررة من سيول "الاربعاء الأسود" هذا الحي تحديداً "مات وشبع موت" بعد أن دكته السيول لخمس ساعات متوالية، في كارثة هي الأولى على مستوى السعودية، وبارتفاع مياه بين (1.5-2) متر، كانت كافية، لأن تجعله يخر صريعاً بدون حياة، فقد تحطم فيه كل شيء، ما عدا العمارات الخرسانية التي ظلت صامدة كالأشباح، وان كانت اساساتها قد تأثرت وتنذر بخطر لكن ذلك في علم الغيب، حيث لم يختبرها أحد، وخلال خمسة أسابيع هي الآن الفترة التي أعقبت السيول الجارفة، بدأ الحي المنكوب، يفتح عينيه للحياة، مثل صريع راح في غيبوبة طويلة، في حجرة العناية الفائقة، ثم لم يتحرك جسده إلى الآن، فقط عيناه مفتوحتان ، حتى أنه لا يكاد يصدق ما حدث له، ومن كان السبب في ذلك العذاب الرهيب الذي هزّ أركانه هزاً؟ آثار الكارثة الزائر لحي قويزة من الناحية الشمالية، يرى للوهلة الأولى أهم معلم حضاري في الحي، وربما في جدة كلها، إنه متحف الملك عبدالعزيز، المعروف للأهالي هناك بمتحف الرغامة، وهو المكان الذي نزل فيه الملك عبدالعزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية، عندما قدم إليها من مكة في جيشه الذي ضم جدة إلى مملكته الوليدة عام 1344ه .. وظل المتحف الذي يقع في مكانه مرتفع نسبياً بعيداً عن كارثة سيول الاربعاء الأسود، ولذلك فلم يصب بأضرار، غير أن من يتقدم خطوات نحو الجنوب أو الشرق من المتحف، وعندما يغوص في اعماق الحي المنكوب، فإنه سوف يجد حتى الآن، آثار الكارثة، ما زالت مرسومة، فوق جسد الحي الحزين، والذي عاش أسابيع عدة بعد فاجعة السيول يحاول أن يتحرك من تحت الركام الهائل الذي جثم على صدره، لكن كل الامكانات التي قدمت للحي، ما زالت أقل من المطلوب، وما زال أمام السكان أسابيع كثيرة, بل وشهور عدة، حتى يعود حيهم إلى عافيته لعودة التوازن المطلوب إلى أرجاء ذلك الحي المنهار. تدمير وترويع بشارع "جاك" وخلال جولة ل (البلاد) في شارع "جاك" الذي يفصل جزئي الحي "المخطط شمالاً عن الشعبي جنوباً" يلمح الفاجعة ما زالت قائمة على ضفتي أكبر شوارع الحي المتضرر، فقد دك السيل الشارع دكاً، وكسر عظامه، واقتلع لحمه، وتركه حطاماً، يصلح لأن يكون مشهداً سينمائياً يتحدث عن نفسه صورة بدون صوت .ويصلح كذلك لأن يكون مزاراً سياحياً كارثياً، لهواة الباحثين عن جولات استطلاعية للمناطق الكوارثية، ومواقع الفواجع والآثار الدرامية الانسانية.ولعل من أبرز المشاهد اللافتة في الشاعر العتيق، أن بوابات المحال التجارية، المصممة على طريقة السحب الملفوف للباب، قد فعل بها السيل الاعاجيب، كما لو قام أحدنا باقتطاع ورقة وكرمشها بيده ثم قذف بها في النفايات، وهكذا السيل، فقد صاغ تلك الابواب بشكل وحشي وجعلها اما معلقة في سقف الباب أو دفع بها إلى الداخل، ثم اقتلع كل الارفف من المحلات التجارية، وسحبها إلى الشارع بكامل محتوياتها، في حالة غضب عجيبة، حتى ترك كل المحال قاعاً صفصفاً. الشقق السفلية الأكثر فداحة ولم تنجح أية شقة بالأدوار الأرضية بالحي المنكوب من الدمار، فقد اجتاحها السيل العرمرم، ولطخ آثاثها بالطين، حتى آخر حجرة ، وترك المكان كئيباً موحلاً، كأنما هو كهف عتيق في قاع وادي عميق، وظل الأهالي حيارى امام هذه المأساة التي أتت على كل ما يملكون، بما في ذلك مدخراتهم، ومصاغ النساء، والاوراق الثبوتية والمهمة، وحقائب وكتب الطلاب والطالبات، وصار الناس أمام خيارين أحلاهما مر.. أما أن يشمروا عن سواعدهم لاخراج الاثاث التالف إلى الشارع، وسط صعوبة بالغة للغاية، وفي ظل انعدام العمالة، التي رفض معظمها العمل، في اجواء موحشة كهذه، بينما غالى الآخرون كثيراً في أسعارهم واشترطوا أسعاراً مضاعفة.. أو أن يترك صاحب الشقة الجمل بما حمل، ويدع المكان نهباً للروائح الكريهة، والآثار البيئية الصحية السيئة، في ظل غياب أي جهد رسمي مساند في الاسبوع الأول للمأساة، وفي ظل غياب العمل التطوعي، الذي تحرك متأخراً، ولكنه كان في شطر كبير منه استعراضي، ولم يشمل معظم الحالات. الكهرباء والهاتف في المقدمة وكانت الجهات الخدمية تقدم رجلاً وتؤخر أخرى في بدايات أيام ما بعد الكارثة، لكن شركة الكهرباء سجلت حضوراً جيداً في حقيقة الأمر، فقد اعادت التيار الكهربائي للبيوت منذ اليوم الثالث لما بعد الفاجعة، وفي تدرج تصاعدي للخدمة، فقد اعادت أولاً غرف الكهرباء التي اقتلعها الطوفان من مكانها، وهي الغرف الضخمة، التي لم يكن يصدق أحد أن أية امطار يمكن لها أن تزحزها من مكانها، لكن أمواج السيول اختطفتها من مكانها، وكأنها لعب أطفال خفيفة، ثم اعادت الشركة "علب" الكهرباء التي تخدم كل واحدة منها نحو أربعة عمارات تقريباً، ثم بدأت الكهرباء وهي تعود إلى الاشتعال، تعيد جزءاً من فقدان الأمل الذي أصاب الناس، بضياع الحياة من الاحياء المنكوبة. كما كان للجهات المسؤولة عن الهاتف الأرضي دور هام وان كان متأخراً، في اعادة البنية التحتية لهذه الخدمة إلى الوجود، بعد أن دكها الطوفان، وبدأت تظهر للناس جهود الجهات المسؤولة عن الاتصالات، لتسجل مع شقيقتها شركة الكهرباء انهما أول وأكثر من أدى دوراً مهماً في الاماكن المتضررة. الأمانة تصحو متأخرة وسجلت أمانة محافظة جدة أقل الجهود، وأقل الأعمال في مواجهة الكارثة في ايامها الأولى، وشاهد الناس القيادات الكبيرة في المنطقة تتفقد الأماكن المتضررة، ولم يروا أمين جدة، ولا مساعديه في غياب كان ولا زال يرفع علامة استفهام كبيرة، فأمين المدينة في البلدان الغربية هو عمدة المدينة، وهو أول مسؤول يصل إلى الميادين المتضررة بحكم المسؤولية والواجب الادبي، وظن الناس ان قيادات امانة جدة، اما في اجازة خارج البلد، أو أنهم قدموا استقالاتهم، لأن أحداً لم يصدق أن مسؤولي الامانة يوم الكارثة أو صباح اليوم التالي لن يكونوا وسط الركام مع المنكوبين لمواساتهم، وللوقوف على حجم الضرر الذي اصابهم. وبدأت بعد ذلك عمليات رفع السيارات من الشوارع، وشاهدت كثيرين يستأجرون معدات لنقل سياراتهم وأنا منهم فقد دفعنا من جيوبنا أموالاً لنقل سياراتنا، وشاهدنا جشع أصحاب الونشات حتى أن أحدهم أخذ مني 400 ريال فقط لمجرد أن حرك سيارتي حركة بسيطة فقد أعادها من وضع الانقلاب على جانبها إلى الوضع الطبيعي على كفراتها مقابل هذا المبلغ، بينما كانت معدات امانة جدة تسحب السيارات باسلوب بدائي غير مبالية بما أصاب بعضها من ضرر قليل يمكن أصلاحه.ورأيت عدداً من الناس أعرف بعضهم يزيل الخراب من فوهة وامام عمارته على حسابه، عندما تباطأت أمانة جدة في الاسبوعين الأولين في أداء هذا العمل الذي يعد من صميم شغلها.. إلى أن بدأت وتيرة العمل من "الأمانة" ترتفع قليلاً قليلاً في اصلاح أعمدة الاضاءة، ورش الشوارع بالمبيدات، واعادت الحاويات، ونقل المخلفات، والتي ما زالت حتى كتابة هذه السطور متناثرة رغم ما تم نقله في الايام السابقة. المطلوب من أمانة جدة الحي المنكوب ما زال بحاجة إلى ورشة عمل، وإلى (ادارة ميدانية كبيرة) من أمانة جدة ترابط في الحي لتخدمه وتخدم غيره، فالاتربة ما زالت مشكلة حقيقية يستنشقها الناس عند كل هبوط لهم إلى الشارع، وما زال أمام أمانة جدة عمل كبير، وفعل حقيقي على الارض.. والأهم من ذلك فإن الناس هناك يطالبون وبشدة بعمل سواتر ترابية ضخمة شرقي الحي، على فوهة وادي قوس الملاصق لحي قويزة، لحمايته من أية سيول جديدة، وذلك كإجراء احترازي مؤقت، وعمل حفر ضخمة في الوادي لاستيعاب السيول، قبل أن تعاود مداهمة الحي، الذي بدأ يفتح عينيه للحياة من جديد، وبسد الطرقات التي تم شقها في الجبال لفتح شوارع عرضية واسعة، فانطلق منها السيل المهلك، بعد أن كانت تلك الجبال مصدات طبيعية للسيول. تأهيل المدارس شبه متوقف ولا زالت مدارس الحي وخصوصاً مدارس البنات متعثرة في مسألة اعادة تأهيلها، وقد وقفت كمثال على المجمع الذي يضم المراحل الثلاث غربي قويزة، فوجدت العمل فيه بطيئاً للغاية، إن لم يكن شبه متوقف، وسط سؤال حائر للمسؤولين بتعليم البنات بجدة، والذين لا يدري سكان الحي، أهم على علم بما حدث للمدارس وللحي، وحاجة الناس الماسة إلى سرعة اعادة تأهيل المدارس، أم إن مسألة "اللجان والمناقصات قد فعلت فعلتها كذلك هذه المرة، و "يا من يعيش" حتى أن حراس المدارس يرددون للأهالي يومياً مقولة إن الدراسة لن تعود الا مع بداية الفصل الدراسي الثاني!! التعويضات غائبة وبقيت مسألة مهمة وحائرة، وهي مسألة صرف تعويضات المتضررين في الشقق والبيوت والسيارات، فكل المؤشرات الميدانية الحالية، تقول ان المسألة ستطول بأكثر مما يتوقعه أكثرهم تشاؤماً .. وهذا في الواقع ضد ما كان يمكن أن يكون طبيعياً، فالواجب أن تقدم وزارة المالية التعويضات للناس في بحر شهر كأكثر المواعيد ابتعاداً منذ الفاجعة، أما وقد تجاوز الناس الشهر، وكل شيء في مسألة التعويضات ما زال (مكانك سر) بأن هذا مما لا تبرأ به الذمة امام الله، ثم امام ولي الامر حفظه الله.