ذلك العالم الذي يهرب فيه من إزعاج الأبناء، ومساءلة الزوجات، وتدخل الجيران.. عالم يأكل فيه ما يشتهي دون أن يشبع، ويشرب فيه ما يحب دون أن يرتوي.. عالم يمكنه أن يتصور فيه أحداثا جديدة يمكن أن تدور بينه وبين كائنات أخرى. لا يهم إن كانت تلك المخلوقات مرئية أو خفية، المهم أنه يأنس بها ويستمتع بالدخول في عوالمها.. قال لأبنائه : لقد رأيت اليوم شيئا غريبا جدا.. يسأله الأبناء وهم يشهقون بدهشة : هل يمكننا أن نراه نحن أيضا..؟ يقول لهم : لا .. لا يمكن .. لا أحد يمكنه أن يبصره سواي .. حقا هو والدهم ، سيدهم، وراعيهم، والمتسلط عليهم، فلماذا لا يخفي حكاياته عنهم..؟ وما فائدة الحكايات إذا لم يستمع إليها شخص آخر ..؟ هنا قال لهم : اجلسوا لأحكي لكم.. وضعت الأم المزيد من الحطب في الموقد.. وأحضرت الطعام الذي حضرته لما بعد العشاء .. وجلست بالقرب منهم.. الجميع ظل منتظرا بلهفة، حين نطق الأب : يحكى أن . واستمر يحكي، ويبتكر مواقف وشخصيات جديدة.. لكن، ماذا لو كانت الأم هي التي تعلمت أن تفكر قبل الرجل ، وتعلمت أن تتخيل وتبتكر الأحداث والأشخاص قبل الرجال..؟؟ لا أحد يدري .. كل ما نعرفه أن هناك الكثير من الحكايات والقصص القديمة ظهرت لنا من كل مكان ، ولكل الأزمان.. إلا أن هناك شيئا غريبا، نحن نعرف أن تلك الحكايات غير واقعية، إنها لم تحدث في الواقع الذي نحياه.. فليس في حياتنا الآن غول بعين واحدة، ليس هناك ثعبان بعشرة رؤوس، ليس هناك بلورة مسحورة تصور لنا من نراه .. دون أن نراه.. ليس هناك تنين يطير وهو ينفث النار، وذلك الطائر العملاق الذي تعرف إليه السندباد في رحلاته العجيبة، الرخ… لكن ، يقال دائما، لا شيء يحدث من فراغ ، كل شيء له بذرة صغيرة تنبت في مخيلة أحد ما ، بذرة استقاها من مشهد عجيب ، أو أمنية مجهولة، أو رغبة بتحقيق المستحيل. إذا كيف خرجت الأساطير القديمة إلى العالم ، واحتلت قوائم القصص والحكايات التي رويت قبل قرون طويلة..؟ إنه ذلك العقل الذي كان بحاجة لأن يستغل طاقته وخياله في أفكار مفيدة غير مضللة، ذلك العقل الفارغ إلا من الجهل والفساد والذل والاستعباد..