شيرين الزيني على غير عادته،لم يعد شريف تلك الليلة إلى البيت مباشرة. فبعد أن ودع أصدقاءه بأحلى الكلمات، ووفاء بأرق النظرات، انطلق في أزقة المدينة يلتهمها دون هدف، أو مقصد. كان يتحرك على الكورنيش تارة، وبين المحلات تارة أخرى، كأنما يستدني الصباح، ويخاف إن هو عاد إلى البيت، وركن إلى فراشه، يطول ليله، ويتمدد، فتتضاعف أشواقه، ويعذبه الانتظار. لم يكن يرى وجوه من يمرون جنبه، أو في الاتجاه المعاكس.فوجه وفاء، وابتسامتها الساحرة يحجبان عليه الرؤية.فكان يصفر حينا، ويدندن بمقاطع أغاني تفرض عليه نفسها أحيانا. الحب حين يغزو كيان الإنسان، ينقله من حال إلى حال. فيغير أفكاره، وعاداته، ويجعله يكتشف جوانب في الحياة لم يكن ينتبه لها أصلا من قبل. الحب هو تلك الطاقة التي تندفع بالانسان إلى الأمام دون مكابح، فتعطيه الرغبة في التجدد، والتفتح مع الأزهار، والشدو مع الأطيار. الحب إحساس لا يمكن لمن لم يعشه، أو يحس به يوما، أن يدرك كنهه، أو حتى يفسره. وشريف الذي كان يراقب حركاته، وسكناته، ويفرض على نفسه مظهرا خاصا به، وسلوكا اجتماعيا معينا، وجد نفسه فجأة كطائر عاش طويلا في الأسر، ليغادر القفص، ويحلق في الأجواء، ويكتشف كم هي جميلة الحياة حين يحرره الحب، من قيود طالما قيدته. رن الهاتف في يده، فاحمر وجهه خجلا، وهو يرى رقم أبيه. فالأب الذي اعتنى بإبنه، وأحاطه بحبه ورعايته، وجعل منه عالمه الجميل، وسببا لاستمراره في التنفس بعد رحيل زوجته، يعرف تقريبا كل تفاصيل حياته، ويحفظ مواعيده. فالبيت الخالي إلا منهما، جعلهما يعيشان حميمية قلما تكون بين الأب، وإبنه. لذلك أدرك أنه خالف مواعيده، فاتصل ليطمئن عليه. اعتذر الإبن بلباقة عن تقصيره في حق والده، بحجة أن الأحاديث أنسته نفسه، وهو يسامر أصدقاءه في النادي. ثم أوقف أول سيارة صادفته لتقله إلى البيت. رن الهاتف من جديد، ودون أن ينظر إلى رقم المتصل، راح يجيب : -أيوه يا بابا. . . أنا ركبت تاكسي وراجع للبيت. اتعشى انت يا بابا، أنا. . . فجأة سكت، وقد أحس قلبه يكاد يتوقف عن الخفقان. فالصوت هذه المرة ليس صوت بشر، إنما أتاه من عالم الملائكة. – ألوووو. شريف ؟ أنا وفاء. حبيت بس أطمن عليك. ( ذكريات داعبت فكري وظني لست ادري أيها أقرب مني هي في سمعي على طول المدى نغم ينساب في لحن اغنى ) يتبع . .