«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أربعاء لا ينسى .. أم تلك هي الحياة؟
نشر في اليوم يوم 13 - 06 - 2003

لانها كانت ومازالت وستظل فاتنة لعوبا.. تتلاعب بقلوب البشر وتتفنن في اغوائهم حتى توقع بهم في شباك هواها، ثم تجرهم خلفها وتنسيهم من سواها.. وفي رمشة عين تقطع بهم حبال الود، فتغدر بهم وتصفعهم.. كي يسقطوا من علو سماء الى سحيق ارض.. ويستفيقوا من جمال الاحلام الى مرارة الواقع.. من نشوة السعادة الى وخزات الألم تعتصر القلب اعتصارا .. تلك هي الحياة.. تخالها وكأنها جنية ماردة.. تتمثل احيانا في هيئة عذراء ترتدي ثوب عروس وتنادي محبوبها بنظرة حالمة.. ابتسامة مشرقة.. ويد ممدودة.. فيراها الانسان امامه كحلم صيف.. يمشي نحوها بخطى
مسرعة.. وما ان يصل اليها ويمسك يدها حتى تنقلب عليه اذا استجاب لاغراءاتها .. فتنزع عنها قناع الجمال.. وتريه صورتها الحقيقية البشعة.. فيراها اذا غوى كما هي ماردة بعينين جاحظتين حمراوين.. وأظافر طويلة حادة كسكاكين مشفرة.. تطعنه بها الطعنة تلو الاخرى.. وهي تضحك ضحكة هستيرية مجنونة.. وتردد باستهتار : (أفق يامسكين.. كم أنت غبي) .. فيفرك عينيه.. عله يهرب من الكابوس الذي يعيشه.. لكن هيهات هيهات .. ما هو بكابوس ولا وهم.. بل واقع مر صنعه هو بعمله عليه ان يتقبله ويتأقلم معه.. وان شاء بعدها ان يذرف عليه دموع الاسى والحسرة.. فهو حر.. المهم ان يدرك انه ما عاد يعيش في الاحلام الوردية التي بنتها له تلك الغجرية اللعوب.. بل عليه ان يستفيق وينتبه لنفسه منها.
تلك هي حكاية الحياة مع الانسان.. نفس السيناريو يتكرر وتقرأه بوضوح في كتاب الكوارث الطبيعية .. الشيء الوحيد المتغير فيه هو المشهد .. فيضانات انزلاقات ارضية اعاصير براكين وزلازل ثم ديكور لمشاهد المآسي المتلون كلون الحياة نفسها.. فمرة يكون الديكور على شكل حروب.. ومرة حوادث مرور.. ومرة كوارث طبيعية.. ومرات اخرى ديكورات لمشاهد جانبية متجددة.. في كل مرة تتفنن في ديكور شكل غير سابقه.. وكأنها ترفع التحدي امام كل من يريد الوقوف في وجهها.. وفي كل مرة تخط على جباه ضحاياها حكايا وحكايا.. الكثير منه تحسبه أساطير من الخيال عندما تقرأه على وجوه الناجين من زلزال الجزائر .. بيد انها حقائق بعضها قص علينا والبعض الآخر لم يقص.. بل بقي وسيظل محفورا بحروف من نار في صدور اصحابه.. وستبقى نيرانه ملتهبة الى ان يواروا التراب.
اما ما قص علينا فما هو الا بعض من شظايا نيران لم تستطع قلوب تحملها وحدها فلفظتها لنا لننصت اليها.. علنا نتمكن بعدها من مواساتها.. والتخفيف عنها.
هنا نحاول جمع شتات اقاصيص ملتهبة.. جمرها مازال متوقدا خرجت من قلوب اصحابها مع زفرات وآهات قاتلة.. للعبرة والاتعاظ.. ولليقظة والحذر من تلك اللعوب الغادرة.. انها جمرات قبل ان تلفظ اكلت احشاء اهلها.. وتركتهم بلا مأوى وبلا قريب او حبيب يهيمون في العراء.. بعد ان سلبتهم كل شيء وما تركت لهم الا سحابة قاتمة على الجباه.. تذكرهم كلما نظروا الى وجوههم بفعلتها وبقوتها وتجبرها.
وما هذه الحكايا الا غيض من فيض.. لمعاناة اوجدها الزلزال الذي ضرب القرى واهلها يغزلون خيوط الحياة ذات اربعاء في 21 من مايو الفارط.. بلدا من اجمل البلدان على الارض.. بلدي الحبيب الجزائر.. بلد المليون ونصف المليون شهيد .. ضرب هذا الزلزال شعبه العملاق الواقف الصامد في الصميم.. فقد اصاب العاصمة وما جاورها وهي من اكثر المدن كثافة سكانية.. لقد تجرأت الغادرة هذه المرة وتطاولت عليه كثيرا كثيرا.. فبعد ديكور الفياضانات التي شهدها منذ حوالي سنة وبعض الشهور التي لم يسترد انفاسه منها بعد.. هاهي في هذه المرة تغير ديكورها.. وفي ثوان معدودات تفور وتمور وتدمر كل شيء بزلزلة قدم.. ثوان معدودات تغيرت فيها حياة الكثيرين.. شرد من شرد وقتل من قتل ودفن تحت الانقاض .. ومات من دفن .. تلك هي الحياة.. تمر علينا الساعات والايام.. الشهور.. السنوات.. فلا نكاد نشعر بها.. او نذكرها.. وما ان تمر عليها لحظات بل ثوان كلمح البصر تهزنا فيها الحياة من الاعماق وتغير مجرى حياتنا رأسا على عقب.. حتى ترسخ في اذهاننا الى الابد.. وتوقفنا في محطة اضطرارية.. ساعة تكون انتقالية.. نضطر بعدها او تضطرنا هي الى تغيير درب حياتنا.. علنا نستيقظ من غفوتنا فنستأنف السير في طريق آخر .. مثقلين بهموم ما حسبنا حسابها.. او توقفنا في محطة نهائية اجبارية.. ننتقل منها الى العالم الآخر.. ولا اقول قبل الأوان .. فكل شيء في الحياة بأوان.. لكنه كان وسيبقى غائبا عن الحسبان.. المؤمن يستقى العبر ويعي الدرس وآخرون سكرت ابصارهم وتظل على قلوبهم اقفالها.
عروسف تزف الى القبر
قصة آمال يحكيها لنا خطيبها وهو يذرف عليها دموعا من دم : (كانت فتاة في 24 ربيعا من عمرها في غاية الجمال واللطف والرقة.. أحبته بقوة وعنف.. ووقفت في وجه الجميع كي تتزوج منه.. فصبرت وتحملت اذاهم لانها كانت تريده وما كانوا يريدون.. وبعد اصرار ومعاندة وافق عليه الاهل.. وحددوا موعد الزفاف في ذلك اليوم يوم الاربعاء.. فطارت فرحا وكأنها يمامة بجناحين مذهبين.. وكانت تستعد للزفاف وتحضر كل شيء.. أرادت ان تشرف على كل شيء بنفسها.. وقبل يومين اطمأنت على ان الامور تسير على ما يرام.. بطاقات دعوة.. حلويات.. مرطبات.. ثوب الزفاف.. صالة الحفل .. أرادت لعرسها ان يكون محفلا يتغنى به الجميع.. حتى جاء اليوم الموعود.. فاستيقظت مبكرة.. وتوجهت للكوافير.. ثم عادت وارتدت ثوب زفافها.. وتجملت بحليها التي اضفت عليها جمالا فوق جمالها.. ولما جاء عريسها تأبطت ذراعه وخرجا معا للمدعوين.. وكأنهما عصفوران من عصافير الجنة.. كان الكل ينظر اليهما ويسبح لجمالها الفتان.. وهي ترفل وتزهو على صويحباتها.. وتجر خلفها ذيل ثوبها.. حتى وصلا الى الكوشة فجلسا.. ثم همت الصبايا للرقص على وقع موسيقى عصرية صاخبة تبعث في القلوب النشاط والمرح.
فكانت هي حينا تنظر اليهن بابتسامة تشجعهن على الاستمرار.. وحينا تبتسم لعريسها ابتسامة مازالت عالقة بذهنه.. وتنظر اليه نظرات حب وشوق ووعد بالوفاء.. وماهي الا ساعة زمن حتى ماجت الارض.. واذا بالاشياء تتساقط على الجميع من كل مكان.. والارض تنتفض تحت اقدامهم وكأن الموسيقى استهوتها وجذبتها.. فأرادت ان ترقص معهم على طريقتها الخاصة.. لم يفهم الجميع ما يحدث.. فكثر الهرج والمرج.. الكل يجري هنا وهناك.. من ادرك ما يحدث ومن لم يدرك على السواء.. فالكل يبحث عن منفذ يستطيع النجاة منه.. فأمسكها من يدها.. وجريا وسط الحشد الكبير .. كان يسعى لان يفتح لها طريقا وسطه.. لكن الحشد كان شديدا وكأنه يوم القيامة.. والحيطان تقذف عليهم حجارتها وكأنها ترجمهم .. وبينما هما يركضان تعثرت بذيل ثوبها وسقطت.. فتملصت يدها من يده وتاهت وسط الزحام.. فالتفت ليبحث عنها او يلمحها فلم يجد لها أثرا.. فقد رفستها الاقدام، ولم يعد يراها.. نظر يمنة ويسرة دون فائدة.. فحاول العودة الى الوراء.. ولم يتمكن.. لان الحشد كان يدفع به الى الامام، اين يوجد المخرج الذي كان مسدودا بالكتل البشرية المتلاطمة.. وكانت خلفه الجدران تتساقط وكأنها غول يطاردهم.. وهم يجرون ويتزاحمون على الباب.. حتى وجد نفسه مع من خرج.. وما ان هدأ الزلزال بلحظات.. حتى عاد يبحث كالمجنون عن محبوبته بين الانقاض .. ولم يتوقف عن البحث رغم الهزات الارتدادية العنيفة حتى عثر عليها جثة هامدة نائمة.. تسبح في بركة من دم أحال ثوبها من البياض الى الاحمرار.. وكأنها وردة حب حمراء جميلة اقتطفت في تمام نضجها ورونقها.. فحملها بين ذراعيه وخرج بها والدموع تنهمر من عينيه .. وضعها على الارض.. وهو ينادي باسمها علها تستفيق وتستجيب لنداء الحب.. لكن ما فائدة ذلك فقد ودعت الحياة الفانية ورحلت الى ربها.. في يوم زفافها.. تزف الى القبر بدل ان تزف الى عريسها الذي طالما انتظرته وانتظرت يوم لقائه.. وطالما.. حلمت به.. وطالما حكت له الحكايا عن حبهما.. وفائهما.. حياتهما معا.. وعن اولادهما.. لكنها راحت قبل ان ترى كل ذلك تاركة في قلبه جمرة ملتهبة مشتعلة.. لايمكن لمحيطات العالم باسره ان تطفئ لهيبها. لقد تركته وحيدا في دنيا وعدته ولم تف منته ولم تعطه... بل كل ما تحسن فعله هو رسم الخطوط النارية على الجباه مثلما فعلت معه.
فجيعة ام في فلذات كبدها
سليمة مدرسة بالتعليم الثانوي وام لخمسة اطفال: زين العابدين, تقوى, عز الدين, الفاروق, سلسبيل, كانت ككل ام مثالية تحب اولادها وتحرسهم برموش عينيها, تخاف عليهم من هبة النسيم, وحتى عندما كانت تذهب للعمل كانت لاترتاح الا وهي متأكدة انهم في رعاية والدتها التي تحنو عليهم مثلها او اكثر, لكن والدتها اصيبت يوم الثلاثاء بوعكة صحية دخلت على اثرها الى المستشفى, وهذا ما شتت سليمة وجعلها مذبذبة بين اولادها.. العمل.. والاهتمام بوالدتها المريضة, ويوم الاربعاء كان يوم عطلتها الاسبوعية وهذا ما سمح لها بالاهتمام ببيتها, ثم التوجه لزيارة والدتها, فاستيقظت مبكرا, رتبت منزلها, غذت اولادها, حضرت اكل والدتها, وهيات نفسها لمغادرة المنزل برفقة زوجها.
قبل خروجها نادت زين العابدين اكبر اولادها, وذكرته بالاهتمام باخوته, عدم اشعال النار, عدم نسيان نافورة الماء مفتوحة, عدم اللعب بالكهرباء او الاقتراب من الغاز, عدم الخروج من المنزل حتى عودتها, خاصة عدم الاطلال من الشرفات, كانت تقيم في الطابق السادس وكانت كثيرا ما تخاف عليهم من السقوط من النافذة, لذا كانت تحذر زين العابدين وتكرر بعدم الاقتراب من الشرفات, ثم قبلت سلسبيل بنتها الصغرى وطلبت منها عدم البكاء ووعدتها بان تحضر لها هدية جميلة جدا, ثم اقفلت الباب وانصرفت.
وصلت الى المستشفى بعد مشوار دام قرابة ساعة ونصف الساعة بسبب زحمة المرور الشديدة, فسلمت على والدتها, واطمأنت على حالها, ثم غذتها وغيرت لها اغطية سريرها وملابسها وصففت لها شعرها, وبقيت معها بعض الوقت تؤنسها وتخفف عنها المها حتى عاد زوجها فودعت والدتها وانصرفت عائدة الى منزلها, وفي الطريق اتصل بها زين العابدين على هاتفها المحمول ليخبرها ان سلسبيل تبكي وتصرخ ولاتريد ان تسكت, فهدأت من حاله وطلبت منه ان يعطيها حبة كعكعة, ثم تكلمت معها, فغنت لها اغنيتها التي تحبها, واخبرتها انها اشترت لها هديتها وانها جميلة جداجدا, كما طمأنتها بانها في طريق العودة, فطارت الطفلة فرحا ونسيت البكاء, ثم طلبت من زوجها ان يسرع في السير, لكن الزحمة كانت شديدة لانه يوم نهاية الاسبوع العملي, والمستشفى بعيد نوعا ما عن المنزل, فانزعجت, وطلبت منه ان يبحث عن مسلك اخر, فأمتثل لأمرها, وهو يحاول التهدئة من حالها.
وما ان وصلا الى حيهما حتى رأت اولادها الخمسة واقفين على شرفة المنزل ينتظرونها, ففزعت, وطلبت منه ان يوقف السيارة كي تترل قبل ان يوصلها لمستودع الحي, اما الاولاد فما ان راوها حتى بدأوا يلوحون لها بأيديهم الصغيرة الجميلة وسلسبيل تقفز تصرخ من الفرح: ماما.. ماما.. ماما, فخافت عليها سليمة كثيرا, وبدأت تسير بخطى مسرعة. وما هي الا لحظات حتى حدثت الفاجعة.. فبدأت الارض تمور بسليمة وكل المتواجدين هناك ورأت العمارة تتمايل يمينا وشمالا والأولاد يصرخون، وفي جزء من الثانية هوت العمارة بمن فيها وما أن وصلت اليها حتى كانت قد هوت كالعهن المنفوش وردم سكانها تحتها, صرخت سليمة وبكت وهي تتجه نحوالعمارة وحاول زوجها تهدئتها لكن هيهات فقد توجهت تحت الهزات الارتدادية وهي تولول وتندب حظها, حتى امسكها زوجها واعادها للوراء, فظلت تبكي وتنوح وهي تنظر الى العمارة التي صارت حطاما بعد ان بلعت كل من كان فيها, لكنها لم تتمالك نفسها بل توجهت الى الركام وهي تنبشه بأظافرها وتنادي كل واحد من اولادها علهم يجيبونها.. ولا من مجيب.. فأغمي عليها وحملت الى المستشفى.
بعدها حضرت قوات الانقاذ وانتشلت ما انتشلت من الضحايا وكان اولادها من بين الضحايا, لقد مات خمستهم مرة واحدة, كما تقطع يد بغتة بضربة سيف قاطع حاد.. اما هي فقد أفاقت من غيبوبتها بعد يوم وهي تنادي على اولادها, وتطلب احضارهم لها, وزوجها واقف على رأسها يسعى جاهدا لمواساتها دون فائدة, وهي الى الان مريضة منهارة القوى تتذكر الصورة الاخيرة التي رأت فيها اولادها وهم يلوحون لها بايديهم, ومازال صوت صغراهم عالقا في ذهنها, ولن يفارقها الى الابد, فقد كانت اما تحتضن خمسة عصافير وفي لمح البصر غدت وحيدة معدمة وكأنها لم تكن ولم ترهم في يوم من الايام, لذا تراها الان ساهدة صامتة لاتنطق ببنت شفة, وان نطقت فلتهتف باسمائهم, وان ضحكت فلانها تخالهم امامها وهي تلعب معهم, لقد احدث لها ما وقع شرخا كبيرا في حياتها, صير حياتها الى فراغ, فقد فقدت عقلها, وهي الى حد الساعة لا ترى احدا ولا تسمع احدا, بل المسكينة حبيسة ماضيها السعيد في بيتها الجميل رفقة اولادها, ترفض الخروج منه لتواجه حقيقة موتهم, والاطباء يحاولون جاهدين اعادتها الى الحياة, واخراجها من الوهم الذي تعيشه لكنها ترفض وتعاند, وهم يظنون انها قد صدمت او بالاحرى جنت لان الصدمة كانت شديدة جدا عليها, ولكن من يستطيع ان يجزم بذلك, الا يمكن ان تكون هناك في عالمها الخيالي بمحض ارادتها, وانها لم تجن بل هي عاقلة وتريد ان تهرب فقط من الواقع المر الذي فرضته عليها الحياة دون اذن منها, وهي تصر على البقاء في عالمها لانها فعلا ترى سعادتها, وتدرك تمام الادراك ان العودة الى الواقع هي التعاسة, وحتى حين ينظر اليها الاطباء نظرة شفقة تبتسم لهم, وكانها تقول لهم لاتحزنوا انا لست تعيسة حيث انا.. اتركوني اعيش سعادتي في ذهني.. بسلام.. لقد حرمتني منها الحياة في الحقيقة.. فلا تحرموني منها انتم في الخيال.
حين تصبح أرواحنا اغلى ما نقدمه لاولادنا
ذاك الاربعاء الموعود ادرك الناس ومعظمهم في البيوت.. لانه نهاية اسبوع العمل وصادف يومها ان قدمت مباراة كرة قدم على شاشة التلفزيون.. ففضل الكثيرون البقاء في منازلهم للتفرج عليها.. وهو الشان نفسه بالنسبة لبدر الدين رجل في قمة الرجولة.. في الخامسة والثلاثين من العمر.. اب لابن وحيد.. اسمه محفوظ.. في الثالثة من العمر.
قبل الكارثة بمدة يسيرة كان بدر الدين يجلس ابنه على ركبتيه وهو يتفرج على المباراة.. وكان في اثناء ذلك يلعب بيدي محفوظ الصغيرتين الجميلتين الناعمتين.. والطفل يرفسه بقدميه الصغيرتين وهو يقلد اللاعبين الذين يراهم امامه.. ووالده يضحك.. بعينين مملوءتين سعادة وغبطة.. وهو يوشوش له في اذنه: عندما تكبر ستصير لاعبا مشهورا مثل هؤلاء الابطال.. ويومها لن اكتف بالتفرج عليك على شاشة التلفاز بل سأنتقل الى أي ملعب تلعب فيه من ملاعب العالم.. ولو كان في اخر الدنيا.
وبينماهو كذلك جاءته زوجته بفنجان قهوة, وارادت ان تاخذ الابن منه, فامتنع الصبي من مفارقة حضن ابيه, فطلب منها بدر الدين ان تتركه الى ان يمل الجلوس ويطالب بها وحده, فانصرفت للمطبخ تعد العشاء وظل هو وابنه يتلاعبان ويترافسان, وهو تارة يجول بشفتيه في كل مكان من جسد ابنه ويقبله.. وتارة اخرى يدغدغه.. ثم يرمي به الى الفضاء ويعيد التقاطه ثانية.. ثم يدور به بسرعة جنونية تجعل الطفل يضحك ضحكات متعالية وشهقات متزايدة تحسب ان روحه ستزهق معها.
ودقت الساعة 8 مساء و39 دقيقة.. فزمجرت الارض.. وارتعدت تحت اقدام بدر الدين.. فظن انه قد انتابه الدوار بسبب دورانه.. فجلس وضم ابنه بين يديه.. لكن الارض لم تتوقف عن ارتعاشها وزمجرتها.. حتى ان من سمعها يومها.. ظن وكأن في باطنها من يدق نواقيص الحرب.
ادرك بدر الدين انه امام هزة ارضية.. بعد ان راى كل شيء امامه يتهاوى.. صغير الحجم وكبيره.. فحمل ابنه واسرع متوجها الى المطبخ ليطمئن على زوجته فوجد سقف المنزل قد انهار عليها.. وصيرها جثة هامدة.. ففزع وارتعد.. ولم يعرف ما عساه يفعل وابنه بين يديه.. فجرى الى الباب.. فوجده مسدودا ورفض الانفتاح.. واحتار بين ان يضع ابنه في الارض ويحاول فتحه وبين ان يبق ممسكا به مخافة ان يسقط عليه شيء ما يقتله.. لكنه فضل الاختيار الثاني وعاد الى غرفة الاستقبال وانزوى في ركن منه وهو يلفظ بالشهادتين ويضم ابنه بين يديه.. وينتظر ان تهدأ الارض عن حركتها.. لكنها لم تفعل... بل استمرت في دورانها.. وكأنها تلاعب ابنها مثلما كان يفعل هو.. وهي توقع كل ما يعيق حركتها.. بما في ذلك الجدران.. ولما رأى انه لا مفر له من موت محتم.. وضع ابنه تحته وتقوقع على نفسه تحت الطاولة ومكث هناك وهو يردد الشهادتين.. والكل شيء يستمر في الانهيار حتى اغمي عليه.
بعد الحادث بأربع ساعات.. سمع قوات الانقاذ صوت بكاء طفل فهرعت للمكان وبدأت تحفر وتحفر حتى انتشلت بدر الدين من تحت الانقاض.. وهن يئن ويتألم.. وانتشل ابنه من تحته حيا سليما معافى من أي خدش.. لكنه كان يبكي ويصرخ (بابا.. بابا.. بابا) فحمل الاثنان الى المستشفى.. حيث لفظ بدر الدين انفاسه الاخيرة.. بينما حفظ الطفل (محفوظ) من كل سوء.. لكنه مازال يصرخ ويبكي مطالبا بوالده.. فمن يأتيه به؟.. ومن أين يأتيه به؟ ومن يجرؤ على ان يقول له بأن والده قد ضحى بنفسه لاجله.. وقد اثار ان يموت كي يعيش هو.. وانه قد رأى ان اجمل واغلى هدية يمكنه ان يقدمها لابنه هي روحه الزكية.. تبقى عربون حب وايثار من اب لابنه مدى حياته الباقية؟
...ويبقى الواجب فوق كل اعتبار
مهدي رئيس دورية للحماية المدنية بمدينة العاصمة... يعمل بدوام التناوب اسبوعيا.. مرة نهارا ومرة ليلا.. مع راحة يومي الخميس والجمعة.. ومع ان عمله صعب ومتعب جدا الا انه يحبه كثيرا وهو متفان فيه.. فهو بشهادة كل زملائه مثال الاطار الساهر على تأدية واجبه بكل اخلاص وتفان.
وفي ذاك الاربعاء.. كان دوره ان يعمل ليلا.. فوصل الى مقر عمله في الساعة السادسة مساء.. في موعده كعادته بكل انضباط.. ثم دخل مكتبه ورتب اوراقه.. بعدها خرج يستكشف ضباط دوريته ومعداتها.. كانت تلك اجراءات روتينية يقوم بها يوميا.. ثم رجع الى مكتبه.. وما هي الا لحظات حتى رأى مكتبه يمشي بخطى مسرعة وكأنه هارب من كثرة العمل عليه والمسؤوليات التي يحملها على عاتقه.. جال مهدي بنظره من حوله فرأى كل شيء يتطاير هنا وهناك.. خرج مسرعا من مكتبه.. كي يطمئن على جنوده.. فوجدهم في هلع وفزع كبيرين.. هدأ من روعهم.. وطلب منهم الاستعداد لأي انذار.. وبينما هو كذلك توقفت الارض عن تموجها.. وصمتت عن صراخها.. فصعد الى مكتبه ثانية.. وما ان دخل الا والهاتف يرن.. والمسؤول يطلب منه التوجه الى منطقة بومرداس.. فأطلق اشارة الانذار وتحركت دوريته بالاتجاه المطلوب.. وقد حاول قبلها ان يتصل بأهله فلم يتمكن.. لان العديد من خيوط الهواتف تضررت مباشرة بعد حدوث الزلزال.. فوكل أمرهم لربهم.. ومضى في عمله.
سارت الشاحنات متجهة نحو المنطقة المنكوبة على وقع رقصات الهزات الارتدادية.. التي كانت ترميهم يمنة ويسرة.. لكن الدورية كانت في مهمة. ومن واجبها التحلي بالصبر والشجاعة مهما كلف الامر.. واستمر الحال على ما هو عليه الى ان وصلت الدورية الى موقع العمل.. وياله من موقع: مبان مهدمة.. عمارات منهارة.. طوابقها متراكمة على بعضها الواحد فوق الآخر وكأنها فطائر (همبرجر) فما كان على مهدي الا ان يبدأ بالتحكم في الوضع.. اولا بتهدئة نفوس المواطنين الذين قتلهم الهلع قبل ان تقتلهم البنايات المنهارة.. ثم مباشرة العمل ثانيا بانتشال الضحايا خفيفي الاصابة ونقلهم الى المستشفيات... وبعدها العودة الى محاولة انقاذ ما يمكنهم انقاذه من الضحايا المردومين تحت الانقاض.. ولم تكن المهمة سهلة ولا ممتعة بتاتا.. وكيف تكون كذلك.. وهم ينتشلون قتلى مردومين.. البعض منهم لم تبق له معالم واضحة يعرف من خلالها.. والبعض الآخر مبتور الاعضاء.. مناظر مفزعة لا يقوى على رؤيتها الا من كان قلبه من فولاذ.. رؤوس مفصولة عن اجسادها تتطاير هنا وهناك.. واعضاء منتشرة في كل مكان.. مناظر لا يمكن لأي كان ان يصفها.. بل هي افظع بكثير من افلام الرعب.. ومع ذلك فقد بقي اعضاء دورية مهدي وغيرها من الدوريات التي لحقت بهم يؤدون مهمتهم بكل صبر وجلد... باعانة الشباب الجزائري الهمام الذي لا يخاف الموت ولا يهابه.. فانتشلوا ما انتشلوه من الموتى.. انقذوا ما انقذوه من الجرحى.. واستمر الانقاذ والاسعاف وتأدية الواجب بكل قوة وعزيمة دون نوم.. او تعب او كلل أو ملل.. حتى بدأت خيوط الفجر تبزغ.. وبدأ الخلق يرون النور قادما من بعيد وكأنه يحمل معه البشرى ان بعد العسر يسرا.. وان الفرج بعد الضيق.. وانه لا مفر من قضاء الواحد الاحد الا بالامتثال لحكمه والرضا به.
اراد مهدي ان يطمئن على اهله فاتصل بهم هاتفيا لكن لا احد يرد فحاول وحاول المرة تلو الاخرى.. وانتابه شك وخوف شديدان اذ ليس من عادة البيت ان يبقى فارغا.. فاتصل بجيرانه الواحد بعد الآخر وكانت نفس النتيجة.. فكبر خوفه وعظم.. فاتصل ببعض اقربائه عله يجد عندهم احدا من افراد اسرته أو خبرا يطمئنه عليهم.. فكانت الفاجعة؟؟؟؟
لقد وقعت العمارة التي يقطن بها مهدي على من فيها محدثة ضحايا كثر.. واسرته المكونة من: زوجة، ثلاثة اطفال، ام، اخت، أخوين.. كلها راحت ضحية الزلزال المدمر.. واضحى مهدي وحيدا.. في هذا الكون الفسيح.. بعد ان كان ابنا لأم لا ينام قبل ان يقبل جبينها.. حبيبا وزوجا لامرأة كانت له نعم رفيق الدرب والانيس.. ابا لاولاد كان يرى في اعينهم نور الحياة فيمده بالامل والعزيمة على الصبر والاستمرار.. واخا لشابين فقدا الوالد فأصبح هو الوالد يحن عليهما بكل جوارحه.. كان سندا لكل اعضاء اسرته يحميهم من اهوال الحياة في كل مرة تهب عليهم رياحها الهوجاء.. لكنه في هذه المرة لم يكن بجانبهم.. بل لم يستطع ان يكون بجانبهم.. ولم يستطع ان ينقذهم او يحميهم من بطشها.. وتعديها عليهم.. تركهم في يد الرحمن وتوجه الى عمله.. لانه يعرف أنه سيكون ابر منه عليهم جميعا.. وطالما انه اختار ان يأخذهم.. فمرحبا بما قضى وما حكم.. وهو لن يلوم نفسه لانه لم يتوجه اليهم مباشرة ليطمئن عليهم.. بل كان عليه ان يبقى في مقر عمله ويؤدي واجبه على اكمل وجه.. حتى ان كلفه ذلك ما كلفه.. لكن ما حدث سيبقى موشوما في قلبه الى ان يلحق بهم.. فقد غدا وحيدا معدما.. ومع ذلك فسيستمر في اداء واجبه بكل تفان واخلاص ككل مرة.. وسيستمر في مساعدة من يحتاج الى مساعدة وانقاذ من يجب انقاذه.. بنفس الساعد القوي.. والجبين الشامخ المتصبب عرقا في كل مرة كحبات لؤلؤ تسقط على وجه من ينتشل من تحت الحجارة.. كأنها قطرات ماء تسعى لانعاشه واعادة الحياة اليه.. تلك الحياة التي نعتقد انها تغدر بنا في كل مرة.. ومع ذلك فنحن نحبها ونتمسك بها.. ونحرص كل الحرص على الا تضيع منا.. رغم علمنا علم اليقين.. انه لا امان لها.. وانها لا تحفظ لنا سرا ولا وعدا. ترى لماذا نحبها كل هذا الحب.. ونهيم بها كل هذا الهيام؟.. وما سر جمالها وجاذبيتها الذي يجعلنا ندور في فلكها.. ولا نحيد عنها مهما فعلت بنا.. ومهما ستفعل؟.. وهل يليق بنا بعد بعد كل ما فعلته.. وما ستفعله.. ان نثق بها.. ونطلب ودها؟ سنقول نعم ونحن ندرك ان لنا اجلا محتوما.. انها الحياة بحلوها.. ومرها.
بعد الزلزال
طفل تم انقاذه من تحت الانقاض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.