الكنائية الشعرية هي التي تصنع الدهشة في التعبير الأدبي لدى المتلقي، وليس أيّ متلقٍ..إنه ذلك المتلقي الذي يتفاعل مع النص من خلال قراءة واعية يوظف فيها قراءات سابقة متعددة، وبالذات في نفس العوالم التي تطرّق لها ولا يزال يتطرق لها الشاعر في نصوصه الجديدة، وبذلك يستطيع أن يتفاعل مع هذه النصوص ويحكم بجدّتها نظراً لما تقدمه من صور مُغايرة ومتطوّرة عن كل ما ارتسم في مخيلته عن الماضي منذ عمق التاريخ حتى قُبيل قراءة هذه النصوص الجديدة ومن أمثلة ذلك يمكننا الإطلاع على المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر المغربي محمد العناز من خلال ديوان شعري يحمل عنوانا دالاً "جليد منتصف العمر"ضمن منشورات اتحاد كتاب المغرب، وهو الديوان الذي توج بجائزة الاتحاد للأدباء الشباب في دورتها التاسعة، ويقع الديوان في85 صفحة، موزعة إلى11 قصيدة، وهذه المجموعة تحمل العناوين الآتية: جليد منتصف العمر، راقصة الباليه، لوليتا، رسالة إلى القديسة، صحراء، جندي من الصحراء، عقارب الماء، سرير العناية، عيون زاكورة، أركانة مراكش، وجه العزلة". "جليد منتصف العمر" كما يقول محرر خبر صدوره : " تجربة شعرية فريدة من نوعها، وفرادتها تكمن في محاورة الشاعر لمتخيل الصحراء برماله وزوابعه وعقاربه وأساطيره، وإشكالاته الثقافية والاجتماعية"، وهذا ما يمكن توظيفه من قبل الشاعر في نقد الواقع بأسلوب القناع أو بعدة أساليب تعبيرية كالتشبيه بالصورة الكلية أو الصورة الجزئية، أو التعبير بالمواراة. ويتابع محرر خبر صدور هذا الديوان بقوله في هذا الصدد: " يعمد الشاعر إلى صياغة تمثلاته للواقع وفق نفس شعري متدفق، يسعى من خلاله الشاعر إلى القبض على المعنى المنفلت، فهو يؤول الصحراء بأسئلتها وفق ما تختزنه ذاكرته من صور ضبابية للماء، ومن ثمة يشيد الشاعر شعريته على المفارقة الصارخة، وأحيانا على التضاد بين الواقع والمتخيل وبين دلالات الجدب والقحط ودلالات الولادة متوسما ببريق الأمل المفضي إلى البحر، وقد صيغت هذه النصوص بلغة شعرية مسكونة بوهج الاستعارة التي تكتنز دلالات احتمالية عميقة نهضت على التكثيف والاختزال دون الخوض في التفاصيل، هكذا تتدفق شعرية محمد العناز وفق أفق جمالي مفتوح يسعى إلى نحت لمسة خاصة في الأدب المغربي ". ومن خلال أحد نصوص هذا الديوان يمكننا الوقوف على بعض المفردات الكنائية بمختلف أنواعها البلاغية المتجددة في الأسلوب، والمحتوى، فهو يقول مُكنّياً عن توقف الحضارة بتوقف الزمن بدلالة استخدامه للعقارب التي لا تدور، ورغم أن هذه الجزئية من التشبيه مُستهلكة وقد وظفها العديد من الشعراء قبل شاعرنا العناز في هذا النص إلا أن الزاوية التي تطرق لها العناز في الصورة الكلية تعتبر جديدة نوعاً ما. والعقاربُ التي لا تدُور ترقصُ في صَحرَاء الغِيَابِ وهو في هذا المقطع يؤكّد على توقف هذه الحضارة بجملة ( صحراء الغياب ) حيث لا ماء ولا كلأ ولا أيّ أثر من حياة تُذكر، وفوق ذلك كله من الغياب الحضاري لا زالت هذه الحضارة المحتضرة. تحلُمُ بقطراتِ ماءٍ آسِنَة، بل تحلم بما هو أدنى من ذلك، حيث أصبحت تحلم حتى بما تبقى من دماء ضحايا هذه الحضارة الموؤودة، وكأنّ ذلك أصبح شافياً لهم لينالوا حياة كريمة. تحلُمُ ببقايا دَمٍ مُلوّثٍ ولا زال الشاعر يغنّي على غربته الحقيقية بل غربة كل مثقف عربي حقيقي ينظر للواقع بعيون زرقاء اليمامة في هذه الصحراء، في هذه الحضارة الموؤودة بالفتن والتفرقات والحروب والضحايا. وأنَا الغريبُ في صَحرَاء المَجاهيلِ، عقاربي، توقَّفَتْ عنِ السؤالِ المُورق عقاربي، أنْهَت دَورَتها الأخيرَهْ كراقصةِ البالَيهِ التي سَقَطَتْ صَريعة. وفي هذا المقطع الأخير، يسدل الشاعر الستار على النهاية الحتمية للانسان الباحث عن الحقيقة، الباحث عن الحضارة الحقيقية التي تحترم الإنسان، وتنتصر لكرامته، ألا وهي السقوط في هاوية الانهزام الحتمي والموت.