“أربعةٌ وعشرون من الشاعرات والشعراء الأوروبيين والأمريكان التقتْ بهم فاطمة ناعوت على الورق أو في الحياة يشكِّلون هذه المختارات ذات المذاق الفريد، وينتمون إلى بلدان مختلفة في أربع قارات هي: جورجيا، إيران، تركيا، الأرجنتين، جزر الهند الغربية، الولاياتالمتحدةالأمريكية، أمريكا اللاتينية، إستونيا، ألمانيا، بريطانيا، قتالونيا.. كلهم مغروس في بيئته، وكلهم- مع تفاوت في الدرجة- يخترق مقولات مكانه وزمانه لكي يلاقي القارئ على أرض الإنسانية الرحبة التي لا تعرف فواصل ولا حدودًا”.. هذا ما يقوله د.ماهر شفيق فريد في تصديره الأنطولوجيا الشعرية التي ترجمتها الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت، وصدرت حديثًا عن سلسلة “آفاق عالمية” التي تصدر عن هيئة قصور الثقافة ويرأس تحريرها طلعت الشايب. حضور المرأة ويضيف فريد: للمرأة حضورٌ واضحٌ في هذه المختارات (إحدى عشرة شاعرة) ابتداءً بشاعرة أمريكية من القرن التاسع عشر هي إميلي دكنسون، وبحقٍّ تصفُها المترجِمةُ بأنّها "قلمٌ عصريٌّ، ينتمي إلى لحظتنا الراهنة"، وانتهاءً بشواعر يعشن أحداثَ يومنِا هذا بعمقٍ وحساسيةٍ وبصيرة. وحدة وتنوع ويقدم فريد قراءة لأعمال الشعراء المترجمين قائلاً: في عمل هؤلاء الشعراء وحدةٌ وتنوُّع: الوحدةُ تلمسُها مثلاً في تجلّياتِ صورةِ الزهرة عند الشاعر التركيّ سيهان إيروزتشيليك، والتنوعُ يتبدَى في اتساع رقعة الخبرات الداخلية والخارجية التي تغطيها القصائد. ثم هناك بُعدٌ سياسيٌّ يستدعي الشرقَ الأوسط وقصفَ بيروتَ على أيدي الإسرائيليين، وغزوَ العراق. وهناك خبراتٌ ذاتية تعالجُ الحبَّ والحُلمَ والفقدان.. وهناك عاطفةٌ دينية تستدعي أجملَ ما في الإسلام. وهناك مرثيةٌ لمحمود درويش. وهناك احتفالٌ بتنصيب باراك أوباما أوّلَ رئيسٍ أفريقيِّ الأصل للولايات المتحدةالأمريكية، إلى آخر ما تجدُه على هذه الصفحات. تناص والتناصُّ، كما لا حاجةَ بنا لأن نقول، جزءٌ من لحمةِ الشعر وسداه، خاصةً في عصرنا، لن يُدهشَك إذًا أنْ تجدَ قصفَ بيروتَ يستدعي مقتلَ هيكتور على يدي أخيل في إلياذة هوميروس، أو أنْ تقيمَ قصيدةُ الشاعر الأمريكيّ ميجيل آنخيل ساباتا "النافذة" حوارًا مع قصيدة نثر سابقة لبودلير تحمل عنوان "النوافذ"، أو أن تحفلَ القصائدُ بإشاراتٍ إلى أبي التحليل النفسيّ فرويد، أو الموسيقار مالر، أو الشاعر جيفري هيل، أو الثائر زاباتا، أو الشاعر رلكة، أو المصور السرياليّ والي، أو راقصة الباليه الروسية بافلوفا: فهذه كلُّها أجزاءٌ من وعي الشاعر الحديث الذي يقف- مهما أمعن في التجريد- على أرضٍ صلبة من منجزات الماضي. طابع إنساني ومما يؤكدُ الطابعَ الإنسانيَّ العامَ لهذه القصائد امتزاجُ العناصر الإثنية والكوزموبوليتانية في تكوين شعرائها: فمنهم مثلاً الأمريكيُّ من أصل مكسيكيّ، والأمريكيُّ من بيرو، والاسكتلنديُّ المولودُ في جنوب ويلز، والمولودةُ في كندا الناشئةُ في اسكتلندا المتلقيةُ تعليمَها في الهند، وقد تعاونتْ هذه العناصرُ كلُّها على صبغ القصائد باللون المَحليّ (انظر مثلاً ابتعاث أزاتكة المكسيك في قصائد لويس لوبيز "أبناء الشمس الخمسة" "هبة النار" "ازدواجيات") الذي يحملُ عبقَ الأرض وزخمَ أشواق من دبّوا فوقها، ونشواتهم وعذاباتهم. ويعتبر فريد هذه الترجمات جواهر صغيرة مُحْكَمة الصُّنع، مصقولةُ الحواف، تجمعُ بين براعة الحِرَفيّ الماهر وجيشان الروح العميق، وهي تنضافُ إلى مختاراتها الشعرية المترجمة السابقة "مشجوج بفأس" (سلسلة آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2004) وترجماتها لفرجيينيا ولف، وغيرها، لتُشكِّلَ إضافةً بديعةً إلى تراثِ الترجمة المعاصرة: أمانةٌ في النقل، وسلاسةٌ في الأداء، وقدرةٌ على العثور على المعادل الدقيق لما قاله شاعرٌ أجنبيٌّ، ثم استضافتُه في لغة الضَّاد. القضايا العربية حاضرة وعلى الرغم من أن الشعراء الذين اختارتهم ناعوت ينتمون إلى بلدان وثقافات مختلفة، فإن القضايا العربية الرئيسية حاضرة في القصائد، تلك التي اختارتها ناعوت بعناية لتفردها بين المنجز الشعري العالمي الراهن، فجميع الشعراء معاصرون، باستثناء إيميلي ديكنسون ابنة القرن التاسع عشر، فقد اختارت لها سبع قصائد تمس- أيضًا- الواقع الراهن وتناوئه، كأنما كتبتها الآن، قصائد عن الحب والوجع والموت والفقد، وهي تيمات عابرة الزمن والجغرافيا، تقول ناعوت في تقديمها للشعراء: هل تخيّلتَ نفسَك مرّةً ثمرةَ طماطم، أو عنزةً، أو فقّاعةَ صابون، أو صورةً تحت لوحٍ بلوريّ فوق سطح مكتبِ كاهنٍ، أو حتى قارورةً تحوي عنصرًا كيميائيًّا فوق رفّ مُختبر؟ الشاعرُ يفعلُ ذلك وأكثر. وربما لهذا السبب قال جورج برنارد شو: "أنتَ ترى الأشياءَ وتسألُ: لِمَ؟، بينما أنا أحلمُ بأشياءَ لم تكن أبدًا وأقولُ: ولمَ لا؟" ولأن الشعرَ أداتُه الخيالُ، فإن الشعراءَ هم محركو العالم، لا الساسة. الشعراءُ يحلمون بعالمٍ أجملَ من صِنعة خيالهم، والساسةُ إما يحققون هذا الحُلم، وإما يجهضونه لصالح مزيد من القبح، وهو ما يحدث عادة. وتضيف أن الشعراء المختارين التقت بعضَهم في أرض الله الواسعة؛ عبر مهرجاناتٍ شعرية في دول العالم، والبعضُ الآخرُ أصدقاءُ افتراضيون أحبت قصائدَهم وودت أن يشاركها القراء متعتها بهم. البحث عن الواقع وتستعرض ناعوت النماذج التي التقتها منها شاعرةٌ من جورجيا اسمها مايا ساريجفيلي، تقول "كان ذلك قبل عامين في روتردام/هولندا. تَشَارَكْنا معًا، رفقةَ عديد من شعراء العالم، في مهرجان روتردام الدوليّ للشعر في دورته ال(38). فتاةٌ شاحبةُ البياضِ نحيلةٌ من مواليد 1968. قالوا في تقديمها: "شيئان لا تشبع منهما مايا، الأطفالُ والقصائد." تلقّتْ تعليمَها حول أصول التربية والتعليم وتعملُ بالتدريس في مدرسة ابتدائية. لها أربعةُ أطفال تتفانى في أمومتها لهم. ولم يمنعها انشغالُها في واجبيها: في البيت كأمٍّ وزوجة وربّة منزل، وكذا في حقلها العمليّ كأمٍّ بديلة كلَّ صباحٍ لعشراتِ الأطفال في مدرستها، من كتابة الشعر. الشاعرُ الرابضُ في عمقها السحيق عليه أن يسرقَ ساعاتٍ قليلةً من منتصف كلِّ ليلة لكي يتنفس ويحيا. متعُها وهمومُها التي مرّ بها يومُها، كبيرُها وصغيرُها، لابد تجدُ وسيلةً ما للتعبير الشعري في قصيدتها. لذلك يخرج شِعرها مفعمًا بالطاقة والحياة، زاخرًا بالجنون والاحتفاء باليوميّ، ومشحونًا بأحاسيسَ متناقضةٍ يصنعُها شغبُ صغارها الكثيرين، هنا، وهناك. وتضيف ناعوت: تنهلُ قصائدُ مايا من موضوعات الحياة اليومية بموجوداتها ومواجيدها وأفعالها المعنوية والملموسة. قصيدتُها تبحث عن اللمسة الواقعية والمادية في روحها في محاولة منها للبحث عن منابع الطبيعة والقوة في عمق المرأة. كتابتها زاخرةٌ بالصور الشعرية التي هي، لفرط مباشرتها وجسدانيتها وروحانياتها في آن، تقدم صوتًا جديدًا ومائزًا في مدوّنة الشعر الجورجاني المعاصر. قصائدُها القصيرة صارخةٌ تقولُ كلَّ شيء في طلقةٍ واحدة. شاعراتُ جورجيا، من أسف، لا يحظين بالقدر الإعلاميّ الكافي ليُعرَفن عالميًّا. رغم أن الصوتَ الأنثويَّ هناك صنع مدونةً بديعةً حول طبيعة حياة المرأة في تلك البقعة الباردة من العالم، كزوجة، وكابنة، وكأم. تلك النزعة الوجودية في أعمالهن تذكِّرُنا بأعمال سلفيا بلاث التي تمثل النموذجَ الشعريَّ الأعلى لكثير من شاعرات جورجيا. ضد الحرب أما الأمريكيُّ سام هاميل، فقد التقته ناعوت في زيوريخ. تقول: "كنتُ التقيتُ به من قبل خلال قصائده المناهضة لكلِّ عنف فوق الأرض. فتنني عنوانُ ديوانِه "الفردوسُ تقريبًا". قبل ديوانه حملتْ هذا العنوانَ الساحرَ كتبٌ كثيرة وأغان كثيرة. رغم ذلك يظلُّ يفتتني كلما طالعته. في سويسرا هالتني بساطتُه وطفولته وإقباله على الحياة. وهالني، للمفارقة، استغناؤه عن الحياة وترفُّعه. هكذا الشعراء. حبُّ الحياة، وعدمُ التهافت عليها في آن، الطفولةُ البِكْرُ، والنضجُ والتطوّرُ الروحيّ والوجوديّ في آن، والأهمُّ، الاستغناء والاستعلاء فوق المصالح. ليس شاعرًا من لا يمتلك تلك المتناقضاتِ الوجوديةَ التي، ربما، هي التي تمنحُه رؤيةً مغايرةً للعالم، وأسلوبًا مختلفًا في الإنصات لوقعِه وإيقاعِه. ومن ثم يغدو الشاعرُ شاعرًا. والفنانُ فنانًا. ارتقى المنصةَ، في أكبر مسارح زيوريخ، وأمام عُمْدَتها وسط حضور كثيف من الشخصيات البارزة وعدسات الشاشات، في قميص قطنيّ وبنطلون جينز، وقرأ قصائده بهدوء وبساطة كأنما يتكلم. لم أره إلا بهذه الملابس البسيطة طوال الرحلة التي استغرقت أربع مدن عطفًا على زيوريخ: بازِل، بِرْن، جنيف، لوجانو. نخرجُ مجموعةً من الشعراء لمشاهدة المعالم الطبيعية مشيًا على الأقدام، حينما يتعب، بكلِّ بساطةٍ يستلقي على العشب، وينام. وتحكي ناعوت جانبا من حياة سام، قائلة: سام هاميل واحدٌ من أكبر شعراء أميركا المعاصرين. له ثلاثُ عشرة مجموعة شعرية، ناهض بوش علانيةً إبان غزو العراق. ورفض دعوة لورا بوش له لإلقاء قصائده في يوم الشعر الذي يقيمه البيت الأبيض سنويًّا. ودشّن موقعًا إلكترونيًّا مناهضًا للحرب عام 2003 عنوانه "شعراءُ ضدَّ الحرب" انضم إليه مئات الشعراء الأمريكان الرافضين غزو العراق والحروب بوجه عام. وفي فنزويلا التقت ناعوت كلاًّ من ليوبولدو كاستيلا من الأرجنتين، وميجِل آنخيل ساباتا، من بيرو. وساباتا من مواليد 1959. يُدرِّسُ الأدبَ الأسبانيَّ بجامعة Hofstra بنيويورك. تقول: ترجمتُ له في الكتاب أربع قصائد. يحكي في إحداها كيف أنه فقدَ ملاكَه الحارس. تاه منه في السهول. القصيدةُ مكتوبة بلُغة الشاعرِ الأمّ أي الأسبانية. وفي الأسبانية، مثلما في العربية، الملاكُ ذَكَرٌ! على أن القصيدةَ في ترجمتها الإنجليزية جعلتِ الملاك أنثى، رغم أن الإنجليزيةَ ليس بها تذكير وتأنيث، عكس بعض اللغات مثل الألمانية والأسبانية والعربية طبعًا. والمترجمَ للإنجليزية أراد أن يخلقَ بهذا التأنيث نوعًا من المجاز والتورية، فقد يكون هذا الملاكُ محبوبةَ الشاعر، وقد تكون أية قيمة عُليا معنوية مثل الخير والنقاء والجمال والعدالة والفضيلة. شأنَّ كلِّ قصيدة جميلة عميقة لا معنًى محددًا أو نهائيًّا يغلقُ القصيدةَ في تأويل واحد وحيد. القادم من بلاد السحر والشراسة وتنتقل ناعوت إلى قصيدة "النافذة" التي يشاكس فيها الشاعرُ الأمريكيُّ اللاتينيُّ ساباتا، الشاعرَ الفرنسيَّ شارل بودلير. تقول: "لبودلير نظريةٌ فلسفية، وبصرية، فيما يخصُّ النظرَ من النافذة أو إليها. طرح نظريته تلك في إحدى أجمل قصائده عنوانها "النوافذ". هو يرى أن الناظرَ من النافذة إلى الخارج، أي إلى الطريق، لا يرى إلا أشياءَ عاديةً مبذولةً لكلِّ من له عينان. أما الناظرُ من الخارج، أي من الطريق، صوب نافذةٍ مغلقة معتمة، يتراقصُ خلف زجاجِها لهبُ شمعة فهو راءٍ مَشاهِدَ ثريةً مفعمةً بالحياة والدهشة وإشعال العقل بالخيال. وساباتا القادمَ من أمريكا اللاتينية، بلاد السحر والشراسة والأساطير، سوف تشتبك "نافذته" مع "نوافذ" بودلير. هو لن يحدثنا عن النظر من النافذة أو إليها. بل سيخرقُ منطقَ الأشياء ويبني نافذةً في الطريق! وتعقب ناعوت: الشعر الماكر يعرف كيف يهدمُ قوانينَ الفيزياء والكيمياء والعمارة والرياضيات، ثم يجلس فوق أطلال ركامها جميعًا ويُخرج لسانه للجميع. وسوف نصفق له، رغمًا عن كلِّ ما فعل من تدمير في أجرومية المنطق والطبيعة والعلم. لأنه يضمنُ لنا فنًّا ومتعة، تجعلنا نضحي بسلامة السيد العلم. خيالُ الشاعرِ لا تعنيه قوانينُ العلماء. لأن الخيالَ سابقٌ العِلمَ وأهمُّ منه، كما قال آينشتين. وتضيف المترجمة: التقيتُ كذلك كلا من: الألمانية سيلفيا جايست، والإستونيّ يان كابلنيسكي، والكاتلونية مارتا بيسارودونا، حينما استضافهم معهد جوتا في مصر، بدعوة من رابطة "الأدب عبر الحدود"LAF، Literature Across Frontiers، كذلك التقيتُ كلا من: التركيّ سيهان إيروزتشيليك، والإسكتلندية فاليري جيليس، وشاعرٍ من ويلز هو روبرت مينهينيك، في ورشة للترجمة في قرية كرير بإدنبره، في ورشة الترجمة تلك كان واحدُنا يترجمُ قصائد الآخرين إلى لغته الأم، استعدادًا لقراءتها بعد أيامٍ في معرض إدنبره الدوليّ للكتاب عام 2007. احتفاء بالموجودات ومن الشاعرات الجميلات في هذه الأنطولوجيا، الإنجليزيةُ جو شابكوت، شاعرةٌ تحتفي بالموجودات غير العاقلة وغير الحيّة إلى درجة أن تبثَّها من روحها، تتقمّصُ مرةً كيانَ ثمرةٍ تقبع في ركن الثلاجة تعاني الصقيعَ وتنتظر بلهفة أن يفتحَ حبيبُها الدُّرْجَ السُّفليَّ حيث ترتعدُ بردًا، لكي يختارَها هي، دون كلِّ الثمرات الأُخر، ويقضمها فتتدفأ بلعابه وتذوب داخل عصاراته الهاضمة. تتحلّل داخل جسده، لكنها، فيما تموت كثمرة، تتعلم صيغةً جديدة للحياة. "أُحسُّ بأوراقي الخارجيةِ تفقدُ مقاومتَها/ يتسرَّبُ الأكسجينُ القاتلُ إلى عٌمقي/ فيما يتسلَّلُ الماءُ بعيدًا/ والخَدَرْ./ الخَدَرُ يزحفُ شيئًا فشيئًا/ نحو قلبي/ هنا، بقاعِ الثلاجةِ/ حيثُ الصمتْ./ فقط أنا/ مع خَسَّةٍ مُتَعَرِّجةٍ ونِصْفِ بَصَلةٍ/ ينفتحُ بابُ الثلاجةِ مراتٍ عديدةً خلال اليوم/ لكنَّه/ أبدًا لا يَفتحُ دُرْجَ الخُضَرِ/ هنا/ حيث أقبعُ في ركني/ مُنكمشةً على عزلتي/....../ لكنْ/ سرعان ما أشعرُ بالدِّفءِ مجددًا/ حينَ أفكرُّ فيه/ أذوبُ مع لُعابِه/ أمرُّ على حلقِه/ ثمَّ تهضِمُي خلاياه/ حينئذٍ/ أتعلَّمُ خلالَ ذوباني/ صيغةً جديدةً للحياة/ أتغضَّنُ/ أذبلُ وأموتُ/ ثمَّ/ أتفتحُ من جديدٍ على الحُّبِّ". ومرّةً هي عنزةٌ ترعى في مرج وتلتهم كل ما يقابلها من مبانٍ وجسور وعشب وبشر. "الغسقُ/ وطريقٌ صحراويٌّ/ وفجأةً/ غدوتُ عَنزةً./ للأمانةِ/ استغرقَ الأمرُ دقيقتين/ حتى ينبثقَ القرنانِ من جُمْجُمَتي،/ حتى يتمرَّدَ عموديَّ الِفقَريُّ/ ثم يستقرَّ على نحوٍ أفقي/ حتى تلتصقَ أصابعي هكذا/ وتتخذَ أظافري طريقَها نحوَ التطَّورِ/ فتغدو حوافرَ." ومرةً تتخيل نفسها قطرةَ ماء تسقط فوق صفحة بحيرة فتجتهدُ أن تحافظَ على توترّها السطحيّ المحيط بجسدها المائي كيلا تذوب وسط الماء من حولها. ومرةً هي راعيةُ أغنامٍ ترعى قطيعَها الذي سوف يتسللُ إلى بيت حبيبها ثم يدخلُ عليه الحمّام فيما هو مستلقٍ في البانيو، فيشرعُ القطيعُ في قرْض أظفار قدميه. ومرة تهبُ قواريرَ متراصةً فوق رفِّ أحد المختبرات روحًا، فتجعلها تتأملُ مشهدَ حبٍّ بين رجلٍ وامرأة يعملان في المختبر كتقنييْ كيمياء. يفتنُها المشهدُ فتغمز لهما، القواريرُ، متواطئةً مع قصة الحب الوليدة. "عند الفجر/ غمزتْ صفوفُ القوارير/ للزوجين المُنهكيْن/ الواقفيْن جوار صوان الدخان". وفضلاً عن التيمةِ الفنيّة التي تنهجها شابكوت من خلال "أنسنة" الموجودات والجماد والحيوانات ما يجعلُ عالمَها ثريًّا واسعًا غيرَ منغلقٍ على البشر وحسب، فإن وراء هذه التيمة دلالاتٍ فلسفيةً، وربما سياسية، أعمقَ من أن نمرّ عليها مستمتعين، وحسب، بِطاقةِ الشعر الخبيئة داخل هذا اللون من الشعرية. تذهبُ النظرياتُ الفلسفية، بل والفيزيقيةُ أيضًا، إلى أن كلَّ شيء في هذا العالم يحملُ طاقةً كامنة Potential Energy. وهي طاقةٌ خبيئةٌ داخل جزيئات المادة بالقوة وليس بالفعل، حسب التعبير الفلسفيّ. وذهبتْ بعضُ شطحات الخيال الإبداعيّ والفلسفيّ إلى أن هذه الطاقة بوسعها أن تجعلَ الجمادَ يشعرُ ويتألمُ ويحبُّ بل ويغار. وتسوق ناعوت مثالا من المسلسلَ الأمريكيّ الشهير "العربة الطائشة" حيث السيارةُ الصغيرةُ العتيقة "هيربي"، ماركة فولكس فاجن، تغارُ على مالِكِها حين فكّر أن يستبدل بها سيارةً جديدة حمراء. فراحت هيربي تنتقم من الغريمة الفاتنة حتى حطّمتها. تشكيلي فائق الجمال أما سُهراب سِبهري- والكلام لناعوت- فيُعدُّ أحدَ أهمِّ شعراء إيران المعاصرين. ورغم موته قبل تسعة وعشرين عاما (1928-1980)، فإن شهرته لا تزال مُشعّةً وراسخةً حتى اليوم. وفضلاً عن تعميده شاعرًا، فإنه فنانٌ تشكيليٌّ فائقُ الجمال، ليس وحسب لأنه تخرج في كلية "الفنون الجميلة" جامعة طهران، لكن ببساطة لأنه فنان. عمل بعد تخرجه في وظائفَ حكوميةٍ عدّة، ثم استقال منها جميعًا عام 1964 ليهِبَ حياتَه بعد ذلك لجناحيْ الإبداع الخفّاقين: الشعر والرسم. طار إلى أميركا ليعيش فيها عامًا، ثم باريس عامين، ليرسم خلال تلك السنوات ما لا يحصى من لوحاتٍ تقطرُ العذوبةَ نفسَها التي قطرتْ من قصائده. لكن الموتَ انتقائيٌّ نخبويٌّ أرستقراطيٌّ، كما هو عبثيّ. لذلك ضربه السرطانُ عام 1979، فمشى إلى إنجلترا في محاولة لهزم ذلك الذي لا يُهزَم. ثم، في عام 1980 من طهران آن أنْ يطير إلى هناك، إلى حيث لا يعودون، ليتوقفَ عن الطيران، وتتوقف ريشتُه عن ضخِّ اللون، وقلمُه عن مشاكسة الورق. ليرقدَ في نفس البقعة التي شهدت مسقط رأسه، في مدينة كاشان بإيران. المتضامنة مع العرب أما أندريا يونج، فتقدمها ناعوت كشاعرة أمريكية شابة، تضامنت مع قضايا العرب. فترجمت لها العديد من القصائد التي تصِفُ افتتانَها بالشرق وجغرافيته وعراقة حضاراته، من المغرب إلى العراق مرورًا بالسودان ومصر والشام، وطبعا فلسطين، الجرحِ العربيِّ الذي لا يبرأ. من دون أن تنسى أن تشير إلى حقولِ القمح الذي تأخذه بلادُها من بلادِنا. إحدى قصائدها كتبتْها ليلةَ قصْفِ إسرائيل لبنان عام 2006، وفي أخرى تخاطب زوجَها العربي البعيد، أثناء القصف خلال متابعتها ما يجري من أحداث دموية فاشية، تليق بإسرائيلَ ولا تليق بالإنسانية. كذلك من ضمن القصائد واحدة كتبتها الشاعرةُ في صبيحة اليوم الذي أطبقتْ فيه إسرائيلُ أنيابَها على عنق بيروت الناصع. شاعر فتنه الشرق وفي الأنطولوجيا يبرز شاعرٌ أمريكيٌّ آخرُ فتنه الشرقُ، هو روجر هامز الذي تنهلُ قصائدُه من الموروث العربيّ، سواء الحضاريّ أم الدينيّ الإسلاميّ. فيقدم رؤيته قصةَ النبيّ إسماعيل، عليه السلام، الذي توقفتِ السكينُ إكرامًا له، وأبَتْ إلا أن تفتديه بأُضحيةٍ سماوية. تلك السكينُ التي لا تعرفُ رُقيَّها ونُبلَها قنابلُ وصواريخُ إسرائيل التي تحصدُ رقابَ أطفالِنا ونسائنا كلَّ يوم، على مرأى ومسمع العالمين! أخيرا كتاب " أنطولوجيا: أبناء الشمس الخامسة" هو الكتاب السابع الذي تنقله فاطمة ناعوت إلى العربية، فقد أصدرت قبلاً: مشجوج بفأس 2003، المشي بالمقلوب 2004، قتل الأرانب 2005، نصف شمس صفراء 2010، وكتابان للبريطانية فرجينيا وولف: جيوب مثقلة بالحجارة 2004، وأثر على الحائط 2009، إلى جانب ستة دواوين شعرية، وثلاثة كتب نقدية: الكتابة بالطباشير، الرسم بالطباشير، المغنّي والحكَّاء. كما تتوفر ناعوت الآن على ترجمة رواية "الوصمةُ البشرية" للأمريكي فيليب روث، لصالح الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز.