لم تكد أوكرانيا تعلن استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في صيف 1991م وأعينها ترنو إلى أوروبا المستقبل ، فمنذ اللحظات الأولى لتأسيس الجمهورية الناشئة بعد الاستقلال لم يتوقف طموح الأوكرانيين نحو بناء شراكاتهم وعلاقاتهم مع دول أوروبا الغربية ، فقد سعى ذلك الجيل بكل قوة من أجل إنشاء الكيان الأوكراني المستقل بعيداً عن روسيا ونفوذها في الشأن الأوكراني ، وشيئاً فشيئاً -رغم حالة البطء الشديد- بدأت تتجه أوكرانيا فعلياً إلى المرمى الأوروبي .. حتى أصيب الأوكرانيون بصدمة التزوير والتلاعب بنتائج انتخابات عام 2004 حين نزلوا إلى الشوارع في حالة غضب على إثر فوز -فيكتور يانوكوفيتش (الرئيس الحالي) في الانتخابات الرئاسية - الأمر الذي أعدّوه نكسة كبرى للطموح بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي . أيقن الأوكرانيون وقتها أنه لا مفر من الثورة والصمود -الثورة البرتقالية- حتى تنفيذ مطالبهم بإلغاء نتائج الانتخابات وإعادتها وبالفعل هذا ما كان حيث فاز بعد الفرز المعارض الأوكراني -فيكتور يوتشينكو- واستلمت رئاسة الوزراء -يولا تيموشينكو- التي تعد واحدة من أثرياء أوكرانيا والمتحكمين بشركات الغاز فيها .. انقضت أربع سنوات من قيادة المعارضة حتى اقترب استحقاق الانتخابات الرئاسية مرة أخرى وفاز بها بكل قوة خصم الأمس -فيكتور يانوكوفيتش- ، استلم يانوكوفيتش مقاليد الدولة والحكومة ومجلس النواب -الرادا- مجتمعة بقيادة (حزب الأقاليم) الذي يرأسه وبتحالف مع (الحزب الاشتراكي الأوكراني) . ارتفعت تطلعات الكرملين مع هذا الحليف الجديد على حدودها الغربية وزادت من اتصالاتها على طريق منع أي شراكة متوقعة مع الاتحاد الأوروبي بدون موافقة موسكو ، الأمر الذي جعل كييف بين مطرقة الكرملين وسندان الاتحاد الأوروبي .. ومن حينها (2009م) وأوكرانيا ما تزال تتأرجح طائرتها التي أقلعت ولم تجد مطاراً تحط رحالها فيه . ونالت أوكرانيا فرصة عمرها حين فازت مشتركة مع بولندا في استضافة بطولة أمم أوروبا 2012 ، وبدأت أوكرانيا تعمل على إعادة تأهيل البنية التحتية وترميمها وعملت على تأهيل كوادرها من ضباط وجنود وموظفي الفنادق والمطارات والسكك الحديد ووسائل النقل وعاملي الجمارك والعديد من قطاعات الدولة التي ستشرف على استضافة الزوار الأوروبيون ، ذلك كله ليس لشيء إلا لتقديم صورة أفضل ووضع بصمة قوية في سبيل إثبات جدارتها وأحقيتها بالانضام إلى الاتحاد الأوروبي ، لكن ربما لم يستطع الأوكرانيون استكمال هذا الاهتمام والمتابعة الأوروبية بل والحضور الجماهيري الضخم لصالحها فيما بعد .. حيث اختفت ملامح هذا التحول نحو أوروبا سريعاً وكأنه كان مسألة وقت للمباريات ليس إلا ، أو أن اللاعبين الاقتصاديين جعلوا من اليورو 2012 موسماً جيداً لاستثماراتهم وتجارتهم ومشاريعهم البنيوية والتسويقية . وتعرضت رئيسة الوزراء الأوكرانية السابقة -يولا تيموشينكو- للمحاكمة والتشهير بسمعتها وإظهارها أمام وسائل الإعلام بصورة المجرمة والمحتالة -وكأنها وحدها من سرق الأوكرانيون وعبث باقتصاد البلاد- ، وبعد مداولات المحكمة لأسابيع حتى صدر الحكم القضائي على تيموشينكو بعقوبة السجن لمدة 7 سنوات لإدانتها بسوء استغلال المنصب وإهدار المال العام . أودعت تيموشينكو السجن في حين أعربت أوروبا عن رفضها لمداولات المحكمة واعتبرت الحكم سياسياً وطالبت بضرورة الإفراج عنها ، وأوقفت مساعيها نحو توقيع اتفاق شراكة تجارية مع أوكرانية . حتى وصل الأمر إلى سحب دول أوروبية لبعثاتها الديبلوماسية من كييف احتجاجاً على سجن رئيسة الوزراء السابقة ودول أخرى استدعت السفير الأوكراني لديها وأخرى رفضت المشاركة ببطولة أمم أوروبا 2012 بسبب تيموشينكو . وخرج الآلاف من الأوكرانيين في أكتوبر الماضي 2013 م احتجاجاً على نتائج الانتخابات البلدية للعاصمة ، حتى اضطرت الشرطة لنشر وحدات مكافحة الشغب التي واجهت هذه التحركات بقوة .. لتبقى كييف على صفيح ساخن خلال الأسابيع المقبلة والتي توّجت أخيرا بإعلان الحكومة الأوكرانية تعليقها لاتفاقية الشراكة الأوروبية ، وتجاهل -الرادا- عن إصدار قرار نهائي بالإفراج عن تيموشينكو .. مما جعل مئات الآلاف من الأوكرانيين ينزلون إلى شوارع كييف وميادينها في حركة احتجاجية هي الأولى من نوعها منذ اندلاع الثورة البرتقالية شتاء عام 2004 م ، ولتتجه على إثرها البلاد نحو المربع الأول على جميع الأصعدة -أوروبياً ومحلياً وسياساً- لتدخل الحكومة وحزب الأقاليم في فوهة المواجهة مع الشباب الأوكراني الطامح والمتطلع نحو الأمل الأوروبي منذ سنوات بعيدة.