بمرور عامين على 25 يناير ، انتهت الموجة الطويلة للثورة بكل آمالها ووعودها وإحباطاتها وخيبة أمل الشعب في تحقيق أهدافها، لننتقل إلى زمن الموجات القصيرة المتدفقة للعنف والعنف المتبادل، حيث أصبح الكل في مواجهة الكل، بدون تمييز بين الأنصار والخصوم، حتى انعدمت الفروق بين الجاني والمجني عليه، وغامت الصورة بحيث أصبح من الصعوبة بمكان التمييز بين القاتل والمقتول، أو بين الثائر و«البلطجي».سحابة شيطانية من العنف الدموي أصبحت تبسط رواقها على المجتمع بعد فترة بالغة القصر لم تزد على ثلاثة أسابيع بعد اندلاع الثورة، حلمنا فيها بتأسيس يوتوبيا (مدينة فاضلة) تسودها أرفع القيم الإنسانية التي سينهض عليها المجتمع بعد الثورة لتحقيق أهدافها السامية، في العيش الكريم والحرية الكاملة والعدالة الاجتماعية.لقد تابعت على مدى عامين كاملين ابتداء من 25 يناير تحولات الثورة في صعودها وهبوطها ، وأحسست أنني قد انتهيت من تنظيري المباشر لأحداث الثورة وفق منهج النقد الاجتماعي المسؤول، الذي لا يكتفي بالإشارة إلى الأخطاء والسلبيات ولكن يعطيها -أكثر من ذلك- التكييف الصحيح. وهكذا لم أتردد منذ شهور طويلة في التحذير من الفروق بين الثورة والفوضى، وتحول المظاهرات السلمية إلى دموية، وانتهازية النخبة السياسية وغوغائية الشارع.وقررت أن أجمع هذه المقالات جميعاً في كتاب سيصدر قريباً عنوانه «الشعب يقف فوق منصة التاريخ». وليس ذلك إعلاناً عن توقفي عن متابعة الثورة، ولكنني أحسست بأنني قلت ما عندي في التقييم النقدي لها، وآن الأوان لكي أنتقل إلى التأصيل النظري الضروري للشعارات الى التطبيق الفعلي، في إطار التنمية المستدامة التي لا يمكن أن تتحقق إلا وفق رؤية استراتيجية بصيرة، وهي رؤية غائبة حتى الآن. وذلك على رغم وجود اجتهادات وطنية ممتازة لمؤسسات بحثية، غير أنها بعيدة عن أفكار النخبة والجماهير معاً. ولذلك عرضت لأبرزها في مقالات سابقة، لكي أؤكد أننا -في هذا المجال- لن نبدأ من الصفر. غير أنني وأنا أعد نفسي لهذه المهمة الشاقة -وأعني تأصيل شعارات الثورة- اطلعت على كتاب بالغ الأهمية نشره المركز القومي للترجمة، للكاتب «مايك ديفيز» عنوانه «كوكب العشوائيات»، وقد قام بترجمته مترجم قدير وكاتب نقدي لم أكن قد قرأت له شيئاً من قبل، هو الأستاذ ربيع وهبة. والذي جعلني أهتم اهتماماً شديداً بمقدمة ربيع وهبة، أنني تابعت -كغيرى من الباحثين- تنامي ظاهرة العنف في المجتمع المصري بصورة غير مسبوقة في التاريخ المصري الحديث المعاصر. وخلصت بيني وبين نفسي إلى نتيجة مؤداها أننا انتقلنا من مشكلة العشوائيات كنمط حضري يمثل خطورة بالغة على أمن المواطنين الذين اصطلح على تسميتهم ب«الهامشيين»، إلى العشوائية كسلوك سياسي واجتماعي.وهذه العشوائية لا يمارسها فقط من نطلق عليهم «البلطجية» بل -وهنا الخطورة- أصبح المواطنون العاديون يمارسونها في أفعال العنف والانتقام التي أصبحت من الظواهر السائدة الآن في مجتمعنا.وقد لفت نظري بشدة في موضوع نشر على الموقع الإلكتروني «بوابة نيوز» موضوعاً بعنوان «البلطجة في عصر النهضة» سرد مخيف لأحداث متعددة، تكشف أن المصريين فقدوا الثقة في القانون فقرروا أن يأخذوا حقوقهم بأيديهم. ولو تحولنا إلى أحداث العنف المتبادلة بين الشرطة والمتظاهرين الذين يهاجمون أقسام الشرطة والمنشآت العامة، لوجدنا نقداً غير منصف للتعامل الأمني مع الذين يستعملون الطوب وقنابل «المولوتوف»، وكأن المطلوب هو فتح الطريق أمامهم للتخريب وهدم المنشآت .وهناك العديد من الأحداث المشابهة لهذه المواجهات الفوضوية التي لا علاقة لها بالثورة، مما يجعلنا نتساءل ماذا حدث للشخصية المصرية بعد الثورة، وما هو تفسير هذا السلوك الفوضوي؟ يبدو أنه تماماً مثلما حدث لميدان التحرير الذي كان «إيقونة» ونموذجاً رفيعاً لأرقى القيم الإنسانية في الوطنية والمحبة والتسامح، وأصبح الآن مباءة تعد سبة في جبين القاهرة، فإن يوتوبيا الثورة -فيما يبدو -قد ضاعت في أدغال غابة كوكب العشوائيات .يا للحسرة والآسف. أستاذ علم الاجتماع السياسي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة.