من رحمة الله بالعباد – وهو الغني عنهم – أن جعل أفضل أيام رمضان آخره إذ النفوس تنشط عند قرب النهاية , وتستدرك ما فاتها رغبةً في التعويض , والعشر الأواخر هي خاتمة مسك رمضان , وهي كواسطة العقد للشهر لما لها من المزايا والفضائل , التي ليست لغيرها ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفي بها احتفاءً عظيماً ,ويعظمها تعظيماً جليلاً , وماذاك إلا لعلمه بفضلها وعظيم منزلتها عند الله تعالى – وهو أعلم الخلق بالله وبشرعه المطهر- . لماذا نستغل العشر؟ إن المؤمن يعلم أن هذه المواسم عظيمة , والنفحات فيها كريمة , ولذا فهو يغتنمها , ويرى أن من الغبن البين تضييع هذه المواسم , وتفويت هذه الأيام , وليت شعري إن لم نغتنم هذه الأيام فأي موسم نغتنم ؟وإن لم نفرغ الوقت الآن للعبادة فأي وقت نفرغه لها؟ لقد كان رسول الهدى عليه الصلاة والسلام يُعطي هذه الأيام عناية خاصة ويجتهد في العمل فيها أكثر من غيرها..ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها)أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيرها ) رواه مسلم. وكان (( إذا دخل العشر شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله )) م وفي المسند عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر شمر وشد المئزر. أيها الناصح لنفسك : - تذكر أنها عشرة ليال فقط , تمر كطيف زائر في المنام , تنقضي سريعاً , وتغادرنا كلمح البصر , فليكن استقصارك المدة معيناً لك على اغتنامها . - تذكر أنها لن تعود إلا بعد عام كامل , لا ندري ما الله صانع فيه , وعلى من تعود , وكلنا يعلم يقيناً أن من أهل هذه العشر من لا يكون من أهلها في العام القادم – أطال الله في أعمارنا على طاعته - , وهذه سنة الله في خلقه (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر:30) وكم أهلكنا الشيطان بالتسويف وتأجيل العمل الصالح , فهاهي العشر قد نزلت بنا أبعد هذا نسوف ونُؤجل ؟ - تذكر أن فيها ليلة القدر التي عظّمها الله , وأنزل فيها كتابه , وأعلى شأن العبادة فيها ف(من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) أخرجه الشيخان . ,والعبادة فيها تعدل عبادة أكثر من ثلاث وثمانين سنة قال تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر:3) ,فلو قُدِر لعابد أن يعبد ربه أكثر من ثلاث وثمانين سنة ليس فيها ليلة القدر , وقام موفق هذه الليلة وقُبلت منه , لكان عمل هذا الموفق خير من ذاك العابد , فما أعلى قدر هذه الليلة , وما أشد تفرطنا فيها , وكم يتألم المرء لحاله وحال إخوانه وهم يفرطون في هذه الليالي وقد أضاعوها باللهو واللعب والتسكع في الأسواق , أُو في توافه الأمور . - تذكر أنك متأسياً بخير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم , وقد تقدم بعض هديه خلال العشر, فاجعله حاملاً لك لاغتنام هذه الليالي الفاضلة . أعمال يجتهد فيها الصادقون خلال العشر : - القيام في هذه الليالي , وفضل قيامها قد جاءت به النصوص المعلومة , واجتهادات السلف يعلمها كل مطلع على أحوالهم ,بل ومن عباد زماننا من سار على هديهم . ولتعلم يا رعاك الله أن البعد عن الذنوب والمعاصي أثر في التوفيق للطاعة , فالطاعة شرف ورحمة من الرحمن لا ينالها إلا أهل طاعته . فلندع عنا التواني والكسل , ولنسعِ للجد في العمل , فعما قليل نرحل , وبعد أيام نغادر هذه الدنيا , ونخلفها وراءنا ظهريا , فلماذا التسويف ؟ - اغتنمها في الدعاء – فدعاء ليلة القدر مستجاب – تذكر حاجتك لربك ومولاك , فمن يغفر الذنوب إلا هو ؟ ومن يُثيب على العمل الصالح إلا الكريم سبحانه ؟ ومن ييسر العسير , ويحقق المطلوب ويجبر المكسور إلا صاحب الفضل والجود؟فاغتنم هذه الفرصة فرب دعوة صادقة منك يكتب الله لك رضاه عنك إلى أن تلقاه , ولا تنسى الدعاء لإخوانك فهو من علامات سلامة القلب , وأيضا ًالدعاء للمسلمين من الولاة والعامة , ولا تحتقر دعوة فرب دعوة يكون فيها الخير لأمتك . - أوصيك أخي بتطهير قلبك فهذه أيام الطهارة والتسامح والتجرد لله تعالى , واجعل حظ النفوس جانباً , فأنت ترجو المغفرة , وتأمل عفو ربك , وليكن شعارك العفو عن الناس وعمن ظلمك , واجعل هذا من أرجى أعمالك هذه الليالي, ولله در ابن رجب في لطيفته يوم قال تعليقا على حديث عائشة " اللهم انك عفو تحب العفو فاعفو عني " إذ يقول : من طمع في مغفرة الله وعفوه فليعف عن الناس فإن الجزاء من جنس العمل .