عادت رشا إلى مدريد بعد أسبوع قضته في ربوع الأندلس متنقلة بين قراها على ساحل الشمس، هروبا من برد مدريد القارص هذا الشتاء، وطلبا للشمس وللدفء ، حيث أنعم الله على ساحل جنوب أسبانيا بشمس مشرقة وسماء صافية لما يزيد على مائتين وخمسين يوما في السنة الواحدة مما جعلها قبلة محبي الراحة والاستجمام على مدى العام وخاصة في الشتاء للقادرين من أهالي الدول الإسكندنافية وشمال أوربا . وتقول رشا إنها شاهدت العديد من القادمين من شمال أوربا يستحمون وفي ساعات الصباح الباكر بمياه البحر الأبيض المتوسط حيث درجة حرارة الماء دون العشرين، وأنها عرفت من سائحة نرويجية أنها تركت قريتها في النرويج يوم أول أمس ودرجة الحرارة فيها عشرون تحت الصفر وهي تستحم الآن بمياه درجة حرارتها قريبة من العشرين فوق الصفر فلا تشعر بالبرد. ودار بينهما حديث تناول في البداية ما للشمس من تأثير في سلوك الأفراد، فهم هناك في شمال أوربا وبسبب تدني درجات الحرارة معظم أيام السنة تجدهم يقضون معظم الوقت في أماكن مغلقة كالبيت والمكتب وبالتالي لا تقوم فيما بينهم العلاقات الاجتماعية بالسهولة واليسر التي تراها هنا في جنوب أسبانيا حيث يتبادل المارة تحيات الصباح والمساء وتمنيات لقاء آخر حتى ولو لم يكن بينهم أي سابق معرفة، وتساءلت السيدة النرويجية عما إذا كانت الشمس وصفاء السماء وزرقة البحر هي السبب في ذلك أم أن هناك عوامل أخرى؟ فقد سبق لها أن زارت شواطئ مماثلة في بلدان أخرى ولم تجد لدى من تقابلهم هناك مثل هذه الحرارة والتودد. تقول رشا إنها أجابت السيدة النرويجية على تساؤلها بأن طلبت منها القيام بجولة على القرى التي تراها خلفها في سلسلة الجبال المطلة على البحر لتعرف السبب، فهناك يا سيدتي ستجدين عبق الأندلس الذي تواصل عطاؤه من عام 711 وحتى 1492 ، أي منذ الفتح العربي الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية وما صاحبه من وئام وتعايش بين جميع المواطنين على قيم سامية تدعو للمحبة والعطاء ، فكانت الحرية الدينية (لكم دينكم ولي دين) وما صاحبها من تساوى الفرص عند المواطنين على اختلاف أعراقهم ودياناتهم فاشتهر من علماء الأندلس العديد، ومن مختلف أتباع الديانات السماوية ، وقد خرج الإسلام من هذه الديار بحرب تصفية عنصرية عام 1492 تاركا في لغتنا وعاداتنا وتقاليدنا ما كان للعرب وللمسلمين من عادات وتقاليد، فكثيرا ما نردد كلمة OJALA ومعناها بالعربية إن شاء الله، وندعو بالخير لبعضنا البعض بما معناه باللغة العربية ليحفظك الله ، وبارك الله بالأم التي وضعتك ، ونطلق على الفتى ابن الدنيا، وعلى اللص ابن الليل، وعلى المتدين ابن الإحسان ، وعلى اليتيم ابن الحجر، وعلى الإنسان السطحي ابن يومه وعلى النبيل الشجاع والكريم ابن الخير ، وعلاوة على ذلك ما زالت مئات الكلمات العربية متداخلة بين مفردات لغتنا الأسبانية ومن بينها مسميات ما أدخله العرب إلى هذه البلاد من منتجات ومعارف، مثل السكر ACUCAR والرز ARROZ والكرزALCARAZ والياسمين JAZMIN والناعورة لرفع المياه من النهر المنخفض إلى السواقي العالية NORIA والساقيةACEQUIA والسوقZOCO والمعصرة ALMAZARA والقلعة ALCALA ، و لا تزال قرانا الصغيرة تحمل اسمها العربي الضيعة ALDEA. تقول رشا إن السيدة النرويجية ، وبحدس النرويجيين اللماح أدركت ما عنيته من حديث عن الأندلس ومفردات اللغة العربية التي لا تزال على قيد الحياة في قاموس اللغة الأسبانية، وأنها أكدت على ما كان للأندلس في عصرها الإسلامي من دور رائد في نشر العلم والمعرفة في الغرب وما حققته من قيم إنسانية قامت على العدل والمساواة ، وهو ما يفتقده عالم اليوم وخاصة في شرقي هذا البحر الأبيض المتوسط حيث زرعت دولة عنصرية تمارس التصفية العرقية بكل همجية ووحشية ولا رادع لها من القوى العظمى المتحكمة بالعالم، وأن الشعب النرويجي بذل ولا زال يبذل ما في وسعه لرفع الظلم والاضطهاد عن الشعب الفلسطيني لتمكينه من إقامة دولة مستقلة على ما تبقى له من بيته الفلسطيني. وتختم رشا حديثها معي بإبداء إعجابها بما يتمتع به سكان الشمال الاسكندنافي من رؤية غير منحازة إلا للحق و للعدل ولكرامة بني آدم.