هربت من آثام السياسة العربية الى الأدب الأندلسي، موضوع دراستي الجامعية، ووقعت في ما هربت منه. هل العرب أمام أندلس جديدة؟ هل يكون مصيرهم في بلادهم اليوم مصيرهم في الأندلس قبل 500 عام؟ هل نعيش حتى نبكي مُلكاً مضاعاً؟ أو يكون البكاء من نصيب الأولاد؟ العرب اليوم أقل حظاً منهم في الأندلس حيث كانت لهم مآثر ليس منها شيء عندنا. كانت لهم جامعة قرطبة والكتب. أقاموا صناعة للورق عاصمتها شاطبة. ألفوا في التاريخ والجغرافيا والأسفار، ابن الخطيب والبكري والإدريسي. تفوقوا في الفلك والرياضيات وتركوا أسماء النجوم، العقرب والطائر والذيب والجدي والفرقد. تقدموا في الطب على أيدي الزهراوي وابن زهر. كان لهم في الفلسفة ابن باجه وابن طفيل وابن رشد (واليهودي ابن ميمون) وابن عربي الصوفي. كانت طليطلة مركز ترجمة للمشرق والمغرب. أقاموا زراعة وصناعة وأول تجارة عالمية. العرب في اسبانيا اطلقوا النهضة الأوروبية بعد عصور الظلام ثم ناموا، أو ماتوا. عرب اليوم ليس عندهم شيء من أمجاد الأندلس، وانما هم في الأندلس الأخرى وبت أرجح أن يلقوا مصيرها. التاريخ الآخر للأندلس يقول إن طارق بن زياد عبر البحر الى الأندلس في غزوة سنة 711 ميلادية (91 هجرية)، نجحت نجاحاً فاق طموحات قائدها، وتبعه مولاه موسى بن نصير سنة 712 (92 هجرية)، وقرأت أنه قابل طارق بن زياد في طليطلة ووبخه وضربه بالسوط لأنه تقدم من دون أن يأخذ رأي مولاه، واختفت أخبار طارق الذي عاد جندياً مغموراً في خدمة سيده. موسى بن نصير حمل غنائم خرافية الى الخليفة في دمشق، وكان الوليد بن عبدالملك مريضاً على وشك الموت، وطلب وريثه سلمان بن عبدالملك من موسى أن يؤخر وصوله ليحظى هو بالغنائم. ورفض موسى وسلّم الغنائم الى الوليد الذي توفي بعد ذلك. واضطهد سلمان فاتح الأندلس وقيل انه أوقفه في الشمس يوماً كاملاً حتى سقط مغشياً عليه. وفي الأخبار أنه مات في الطريق الى المدينة، أو أنه شوهد يتسول في قرى حول المدينة. الأندلس تعاقَب عليها 23 أميراً بين 723 و755 ميلادية عندما جاءها الأمير الأموي عبدالرحمن الداخل ليقيم إمارة وحّدت معظم البلاد لا كلها. كان في الأندلس عرب انقسموا بين عصبية مضرية ويمانية وبربر، وجاء مع عبدالرحمن السوريون، وهو واجه مقاومة من اليمنية «وأوقع بهم واستوحش من العرب قاطبة وعرف أنهم على غل وحقد، فانحرف عنهم الى اتخاذ المماليك، وأخذ يشتري الموالي من كل ناحية، واستعان بالبربر واستكثر منهم حتى بنى جيشاً كبيراً» («نفح الطيب» للمقري). التاريخ السياسي للأندلس كله من هذا النوع، وخلفاء عبدالرحمن تآمر بعضهم على بعض، وتعاونوا مع ملوك الإسبان على منافسيهم، ووقعت الفتنة البربرية في 400 هجرية، وتبع ذلك ملوك الطوائف، ومنهم موالي العامرية في المرية ومرسيه وبلنسيه وغيرها، والبربر الصنهاجيون في غرناطة ومالقة، وبنو الأفطس في غرناطة، وبنو ذي النون في طليطلة، ومنهم المأمون الذي استعان بالملك فرديناند ضد أعدائه مقابل جزية، وبنو حمود الحسينيون في قرطبة، وفي أيامهم وقعت ثلاث مصائب، فقد استولى النورمانيون على بربشتر ثم طليطلة التي حول اذفونش جامعها المشهور الى كنيسة سنة 478 هجرية، وبعدها سقطت بلنسية. ثم جاء المرابطون في 484 هجرية وبقوا الى 539 هجرية عندما تبعهم الموحدون، ولم يبق أمير إلا وتعاون مع الفرنجة على الأمراء الآخرين، وإذا انتصر بطش بأعدائه وزاد العداء والفرقة. وكان آخر أمراء العرب من بني نصر، ولم يشذوا عن قاعدة التآمر بعضهم على بعض، وكتب التاريخ تقول إن سلاطينهم 21 رجلاً حكموا بين 1232 و1492 ومنهم ستة وُلّوا الحكم مرتين، وواحد هو محمد الثامن المتمسِّك (بكرسي الحكم طبعاً) ولّي الحكم ثلاث مرات. وفي النهاية استعمل الملك فرديناند محمد الحادي عشر، أبا عبدالله، وكان أسيراً عنده ضد اخوانه، وقامت حرب دامية بين السلاطين وسقطت غرناطة وإسبانيا كلها في أيدي مملكتي كاستيل والاراغون اللتين توحدتا بزواج ملك الأراغون فرديناند من ملكة الكاستيل ايزابيل وانتقل محمد الثاني عشر الى تلمسان «وقضى بقية حياته يأخذ من أوقاف الفقراء ويلبس ثوباً خَلِقاً» (المقري). وأسأل مرة ثانية هل نحن أمام أندلس جديدة، أندلس السياسة لا المآثر؟ ربما سهّل القارئ على نفسه الوصول الى جواب اذا استبدل بأسماء أندلسية أسماء معاصرة، وقارن أحداثاً حتى السقوط بأحداث كان شاهداً عليها في عمره. يكفي نكداً، ولعل القارئ لاحظ انني لم أشر في كل ما سبق الى المعتمد بن عبّاد، فقد رأيت بعد أن غرقت في بحر كتب التاريخ والأدب أن أكمل غداً ببعض الشعر الأندلسي المناسب، فالشعر تاريخ الأندلس كما هو تاريخ العرب.