وصلتني رسالة بالإنجليزية تتحدث عن صبي وبنت صغيرين يلعبان معاً على شاطئ البحر، وكان لدى البنت بعض قطع الحلوى فأراد الصبي قطع الحلوى لنفسه، ففكر كيف يقايض البنت، فجمع عدداً من الأصداف، ثم قال لها: أعطيك كل الأصداف التي جمعتها على أن تعطيني كل قطع الحلوى التي معك، فوافقت البنت. لكن الولد ترك لنفسه أجمل صدفة وأعطاها الباقي فأعطته كل قطع الحلوى حسب الاتفاق. وفي تلك الليلة نامت البنت مطمئنة البال، لكن الصبي لم يستطع أن ينام! ذلك لأنه كان يفكر طوال الليل: كم قطعة من الحلوى استطاعت البنت أن تخفيها عنه ولم تعطها له! فقد ظن أن البنت تصرفت كما تصرف هو! إنها قصة تتكرر في حياتنا دوماً بطرق مختلفة. فإذا لم تعطِ الآخرين ما يجب لهم، فستكون في شك دوماً أنهم لم يعطوك ما يجب لك! وهذا ينطبق على كل مناحي الحياة: في العلاقات الزوجية، وبين الأصدقاء، وفي علاقات العمل، وغيرها من العلاقات. عندما أجد موظفاً متذمراً من سوء معاملة مديريه أسأله: هل قمت بواجبك قبل أن تطالب بحقك؟ وإذا وجدت مديراً مستاءً من موظفيه أسأله: هل أعطيتهم كامل حقوقهم؟ وأذكر مدير شركة كان اتفق مع كل مندوب مبيعات على إعطائه نسبة من قيمة المبيعات إن حقق في مبيعاته حداً معيناً. ومع الزمن زادت المبيعات لأن المندوبين كانوا يعملون بحماس في سوق تنافسي، وبالتالي ارتفعت رواتبهم، فما كان منه إلا أن أصدر قراراً بتخفيض النسبة المتفق عليها! وكانت العقوبة من قبلهم سريعة، فانخفضت المبيعات في الشهر التالي مباشرة! فمن أراد أن ينام قرير العين فليعط كل ذي حق حقه، وليكن صدره سليماً من الحسد والغل والحقد والغدر وغيرها من أمراض القلوب! إن سلامة الصدر راحة في الدنيا وغنيمة في الآخرة. وهذا مبني على الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، ثلاثة أيام يكررها، وفي كل مرة يدخل رجل من عامة الصحابة. فلحق به عبد الله بن عمرو ليطلع على عمله ويقلده، فبات عنده ثلاث ليال فلم يجد منه كثير عمل، فاستوضح منه فأجابه: (ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه). وقد يظن بعض الناس أن سليم القلب يسهل غشه وخداعه والضحك عليه، وهذا ليس بصحيح، فهناك فرق بين سليم الصدر والمغفل. الأول يعرف الشر ويقدر على عمله ولكنه لا يقدم عليه، أما الآخر فلا يعمله جهلاً به أو عدم قدرة عليه. وقد عبر عن ذلك الفاروق رضي الله عنه بقوله: (لست بالخبِ ولا الخب يخدعني)، والخب هو الخادع الغشاش. على أن التغافل مطلوب في التعامل مع الناس، والتغافل هو تعمد الغفلة، حتى لا يدقق عليهم في كل أمر. وفي الحديث: (قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان. قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد). ومما يعين على سلامة الصدر تجاه الناس عدة أمور، أولها أن يضع المرء نفسه موضعهم، فذلك يدعوه إلى حسن الظن بهم وحسن التصرف تجاههم. بل هذا من أهم الطرق المؤدية إلى إنصافهم. وثانيها قبول اعتذار من جاءك معتذراً، وإن غلب على ظنك تصنع العذر، فقد قيل: دية الذنب الاعتذار، والوغد هو الذي يرى الصفح ضعف وعار. وثالثها الإقلال من العتاب وجعله رقيقاً، وقد قيل: أفضل العتاب ما غرس العفو وأثمر المحبة. ومن جميل ما قيل في هذا قول حاتم الأصم: إذا رأيت من أخيك عيباً فإن كتمته عليه فقد خنته، وإن قلته لغيره فقد اغتبته، وإن واجهته به فقد أوحشته؛ قيل له: كيف أصنع؟ قال: تكنِّي عنه، وتعرِّض به، وتجعله في جملة الحديث. ومن الكتب الجميلة هنا كتاب (مدير الدقيقة الواحدة) وكتاب (أب الدقيقة الواحدة). والأمر الرابع الزهد بما في أيدي الناس. وفي الحديث: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس). وأخيراً وليس آخراً فإن تجنب الحكم على النيات هو من أعظم أسباب حسن الظن؛ فهل نترك سرائر الناس إلى الذي يعلمها وحده سبحانه، والذي لم يأمرنا بشق الصدور لمعرفة ما فيها. على أن هذه الخصال تحتاج إلى كثير من مجاهدة النفس لحملها على ذلك، فالنفس البشرية ليست مفطورة عليها. كلية الهندسة، جامعة الملك عبد العزيز [email protected]