✒في العالم الغربي اليوم مللٌ من القيم المادية الفارغة من المعنى، والتي تعامل الإنسان كالبهيمة، لاتخاطب أعلى مافيه: الروح، بل تركز على الجسد حتى تشقى الروح وتبحث عن نعيمها هنا وهناك، ومن هذه القيم المادية: الجوعُ الاستهلاكي، والنهم للشراء وتكديس الأشياء، ماسمّاه المسيري رحمه الله (الفردوس الأرضي) ذلك النعيم الذي وعد به الحلم الأمريكي: أن تحصل على كل ماترغب به، فقط اعمل بجد، واكسب مزيدا من المال لتحقيق ذلك. يمكننا مُلاحظة الوحش الاستهلاكي متمثّلا في الشركات الكبرى التي تبتلع حياة الأفراد وتسحقهم تحت عجلاتها، والمصانع التي تنتج سلعا أكبر مما تحتاجه البشرية وتستعمل التسويق الخادع وتجدد الموضة لإيهام المستهلك بضرورة (شراء) السلع التي تم (إنتاجها) مؤخرا، وكما عبّر المسيري رحمه الله: قديما كانت الحاجة أم الاختراع، واليوم أصبح الاختراع أبو الحاجة. يشعر المستهلك بتوقٍ شديد للحصول على السلعة الجديدة (ملابس، أجهزة، أثاث، سيارة..الخ) وتُمارَس عليه حربٌ إعلامية ضَروس، ترسم له الحياة في قالب محدد قائم على الاستهلاك والتجديد المستمر، فيتجه للشراء ويشعر بفرحة غامرة تشبه شعور المدمن حين يحصل على جرعة المُخدّر، ثم يكتشف بعد فترة أنه بحاجة لشراء أخرى لأنها أفضل،* وهكذا تدور عجلة الإدمان الاستهلاكي لتخنق الأشياءُ الناسَ في منازلهم، وتجبرهم على البحث عن وظائف ومصادر دخل أعلى للوفاء بكل هذه (الاحتياجات) الجديدة، دوامة تضغط الفرد المسكين ليعمل بجد ويصب عُصارة جهده وكدّه في خزائن الشركات الكبرى؛ استجابة لمعايير مجتمع معوج أقنعه أن قيمته بمايملك، لا بما هو عليه حقا، وأنه لايوجد أسلوب آخر للعَيش. حركة ال Minimalism، أو كما أترجمها شخصيا: الزُّهد، حركة جديدة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، صحوةٌ من سَكرة إدمان الاستهلاك والتشيؤ، والزاهد Minimalist يقلّص حاجياته إلى الحد الضروري الأدنى ويتخلص من كل ماليس ضروريا أو مهمّا أو ذا قيمة حقيقية، بحثا عن حياة ذاتِ معنى وخروجا من دوّامة الاستهلاك وإدمان التسوق، المشاركون في هذه الحركة يؤكدون أنهم الآن أكثر تحررا وسعادة وقوة، وأن الأشياء التي أبقَوها معهم اكتسبت قيمة أعمق في حياتهم. شابان أمريكيان أنتجا فيلما عن ال Minimalism، يقدمان فيه منظورهما للحياة بأبسط وأعمق الأشياء، ورحلتهما في الدعوة لهذه الفكرة، شاهدتُ الفيلم، ولم يفاجئني تشابهه الشديد مع مفهوم الزهد في الإسلام، والتقلل من متاع الدنيا، وكنت ألاحظ هذه المفاهيم في الثقافات الشرقية، لكنني رأيته هنا ينطلق ثائرا على المادية والرأسمالية والاستهلاك من أكبر مروجٍ وراعٍ هذه المفاهيم: الولاياتالمتحدةالأمريكية. من الجمل التي استوقفتني في الفيلم -والتي تلخص فكرته- جملة قالتها إحدى المتبنيات لهذه الفلسفة في العيش: We all need basics: having house, food in a table, being safe, that is really important to recognize, because not everyone has these things كلنا نحتاج الأساسيات: المسكن والطعام والأمن، وهذه هي الأمور التي ينبغي تقديرها حقا، فليس كل إنسان يمتلكها لابد لمن سمع جملتها العميقة هذه أن يقفز لذهنه قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنا في سِربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا) طوال مشاهدتي للفيلم، تتداعى في ذهني النصوص التي أحفظها عن الزهد والتقلل من متاع العاجلة، عندما رأيت البيوت الصغيرة جدا والتي اختاروا أن يسكنوها لأنهم فعليا لايحتاجون سوى الأساسيات، تذكرت حُجُرات النبي صلى الله عليه وسلم، وحياتَه التي كانت تقوم على الأساسيات فقط، المشكلة اليوم أن من يذكر نفسه والناس بهذه القيم الأصيلة في الإسلام والتي تنسجم مع رؤية المسلم لهذه الدنيا بأنها دار ممر لا مقر، يُهاجم بأن هذا لايناسب حياتنا اليوم ف الدنيا تغيرت وكأن القالب الاستهلاكي سجنٌ لايمكن الفكاك منه والتحرر، مع أن غيرنا فعلها وهو لايرجو بعثا ولانشورا. هذه تشويقة الفيلم في*اليوتيوب، ومن أراد مشاهدته كاملا، فيمكنه شراؤه من هذا*الموقع، ويمكن البحث في اليوتيوب عن تجارب المنضمّين لهذه الفلسفة في الحياة، بالبحث عبر كلمتي Minimalism و Mininmalist. كتبت هذا المقال في العام الماضي في قناتي في التليغرام عند مشاهدتي للفيلم بعد توصية من صديقة،*ومؤخرًا نَشر الأخ المبدع ( علي محمد ) في قناته المميزة في اليوتيوب اثنين من الفيديوهات عن هذا الموضوع: Minimalism أو تبسيط الحياة* (*1**2) وقد تناول في المقطعين تبسيط الحياة من عدة جوانب (ترشيد الاستهلاك، تبسيط البيئة والأغراض الشخصية، تبسيط العلاقات، تبسيط الحياة العمليّة)، ومن الكتب التي انتشرت في الآونة الأخيرة كتاب اليابانية ماري كوندو (سحر الترتيب) وهو كتاب يصف منظورها لترتيب المنازل من وجهة نظر شخص يتبع فلسفة التقليل أو التبسيط أو Minimalism . بالنسبة لي، أحببت هذه الفلسفة لأن التعقيد وكثرة الأشياء أمورُ تصعّب الحياة، ولأن سِيَر العلماء والعظماء تحكي أنه كلما ازداد الثراء المعنوي للإنسان جنحَ للبساطة والتخفّف من أثقال الحياة المادية، ولأن تبسيط الحياة يحل مشكلات مجتمعية عويصة لاحدّ لها، وقد جاء الإسلام بكل هذا ولكننا قومٌ نزهد بما لدينا حتى يأتي به الأجانب فنفغرُ أفواهنا دهشة وإعجابا !