د.هاشم عبد الله الصالح - الاقتصادية السعودية في البداية أود أن أشير إلى أن عنوان هذه المقالة قد استوحيته من قراءتي لكتاب سيرة حياة المفكر الموسوعي العربي المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري، فهو يقول في كتابه هذا وفي إطار حديثه عن الاستهلاكية والإمبريالية النفسية: إنه في الماضي كانت الحاجة هي أم الاختراع، فالإنسان في الماضي كانت حاجته هي التي تدفعه للاختراع، لكننا اليوم نعيش في زمن انقلبت فيه المعادلة وصار الاختراع الأب الشرعي للحاجة، فبفضل الثقافة الاستهلاكية التي باتت تشكل الدعامة الأهم في مفهوم التنمية والتطور حدث هناك انقلاب في معنى الكثير من المفاهيم التي تشكل في مجملها طبيعة الإنسان والحياة عموما. الإنسان أخرج قسرا وبالكراهية من دائرته الإنسانية ليحشر في دائرة الإنتاج المادي، فالدكتور المسيري يشير إلى مفهوم مهم، هو الإمبريالية النفسية، وهي التي تقوم على أساس استعمار نفس الإنسان، فعندما تستعمر نفس الإنسان ويستباح عالمه الداخلي فإن الأرض والإنسان والمقدرات والموارد، حتى الزمان في حاضره ومستقبله يكون ملكا لمن تكون له الغلبة في استعمار هذه النفوس. الاستهلاكية ثقافة حياة؛ لأن المقصود منها إعادة إنتاج الحياة بأشكال مختلفة ومفاهيم جديدة وقيم مغايرة وإن كان يبدو في الظاهر أن الاقتصاد هو المجال المستهدف الأساس بهذه الثقافة. الاستهلاكية اجتهدت لتعميق وترسيخ الجانب الحيواني عند الإنسان، فصار ينظر إليه على أنه جسد أكثر مما هو مخلوق إنساني له جوانب متعددة، فالمنفعة صارت مادية بحتة، واللذة صارت حسية والمصلحة صارت تترجم فقط في الأمور المادية، حتى سعادة الإنسان صارت تفهم على أنها تكالب على استحواذ أكبر قدر ممكن من الأمور المادية. فكيف لا تغير الاستهلاكية معنى الحياة وهي استطاعت أن تغير الإنسان نفسه ومن داخله؟ فهذه الثقافة استطاعت أن تفكك الإنسان وتعيد تركيبه بحيث يكون بطنه وفرجه هما الأساس في حياته، وصيّرت الأمور الأخرى روافد لتعزز وترسخ هذين البعدين في حياة الإنسان. وخطورة هذا الأمر أن قيمة الإنسان صارت تحدد في إطار هذين الجانبين وتبع هذا أن الحاجات التي يستحق السعي لها صارت حاجات جسمانية فقط، فالإنسان صار لا يفقه حاجاته، بل صار يفهم أن السلعة الجديدة تنبئه عن حاجة موجودة في نفسه لم يلتفت إليها إلا الآن والمطلوب منه الإسراع لتلبية هذه الحاجة المكتشفة باقتناء السلعة الجديدة، وبالتالي صار الإنسان يبحث ويتابع السلع الجديدة ليكتشف ما عنده من حاجات وصار المصنعون لا يهتمون بحاجات الإنسان ولا يجتهدون في التعرف عليها؛ لأنهم صاروا هم من يخلقون هذه الحاجات له وهم من يرتبون أهميتها في حياته. فالإنسان صار يذهب إلى السوق لا ليشتري ما يريد وما يحتاج، بل يذهب هناك ليشتري ما لا يريد على أن ما يشتريه هو ما يريده ويحتاج إليه، وزائدا على ذلك أنه سيشعر بالسعادة وهو يقتني ما لا يريد وما لا يحتاج. وعلى أساس هذه الحاجات الوهمية صار عندنا اقتصاد استهلاكي بالدرجة الأولى، ومن ثم تطور هذا الاقتصاد من اقتصاد ينتج سلعا حقيقية إلى اقتصاد ينتج سلعا وهمية تباع وتشترى على أنها سلع حقيقية، ومن ثم تطور هذا الاقتصاد أكثر واستحوذ حتى على الأمور المعنوية عند الإنسان وجعل منها سلعا تباع وتشترى في السوق. الدين وهو أقدس ما عند الإنسان وأهم جانب معنوي في حياته سرقته الثقافة الاستهلاكية وأنتجت منه سلعا دينية هي الأخرى تشترك مع السلع المادية في تهميش هذا الإنسان وتسطيحه وليس للارتقاء به كإنسان وكمخلوق كرّمه الله على بقية المخلوقات. الاستهلاكية باعتبارها ثقافة حياة أثرت في الفكر بشكل عام كما أثرت في مفهوم الاقتصاد؛ فالاستهلاكية خطورتها أنها تحولت إلى ثقافة، والثقافة يمتد أثرها وينعكس تأثيرها على جميع جوانب حياة الإنسان ولا يستثنى من ذلك حتى الجانب الفكري عند الإنسان. وإذا كان المجال لا يتسع لذكر ومناقشة كل جوانب التأثير والتأثر بالثقافة الاستهلاكية إلا أننا نستطيع ذكر بعضها ولو بشكل مختصر: 1- تأثر الفكر بالثقافة الاستهلاكية من خلال نظرتها للإنسان على أنه جسد أو أنه مفردة اقتصادية لا غير أو أنه مجرد كائن خليط من الشهوات الحسية والحاجات الجسدية. والخطورة الأكبر هنا هو أنه حتى الفكر الديني قد استوعبته هذه النظرة الثقافية للإنسان إلى حد ما فصارت الدعوة إلى الدين هي في الأساس دعوة إلى قمع هذه الشهوات باعتبارها منبع كل الشرور في الحياة ومن ثم تطور هذا القمع من قمع للشهوات وليس ترشيدها وتهذيبها إلى قمع للأفكار والآراء والاجتهادات المختلفة لينتهي الأمر إلى إنتاج فكر يستسيغ قمع حتى الإنسان نفسه باسم إنقاذه من شرور نفسه ومن أجل هدايته إلى الطريق المستقيم، فلقد استدرج الفكر الديني ووقع في حفرة الاستهلاكية وصار فكرا يشرعن ربما بغير وعي مفهوم القمع في علاقة الدين بالإنسان. حتى عندما يريد هذا الفكر جذب الإنسان وإغراءه بالأخلاق والحياة المبنية على التعاليم الدينية فإنه أيضا يختزل الإنسان في جسمانيته وشهوانيته، فتراه يركز ويكرر الأقوال التي تذكر هذا الإنسان بما ينتظره من جزاء أخروي لا يخرج عن دائرة الجنس والبطن وكأن الأخلاق ليس لها أي دور إيجابي ملموس على حياة الإنسان في هذه الدنيا، فهذا الفكر المتأثر بالاستهلاكية يقع بوعي منه أو بغير وعي في معادلة السوق نفسها، فهو يريد أن يشتري حياة الإنسان الدنيوية ليبيعه حياة أخرى بشهوات هذه الدنيا نفسها، وفي هذا تصديق لمقولة الثقافة الاستهلاكية بأن الإنسان ما هو إلا مجرد كائن حيواني اقتصادي شهواني، وهذا يتناقض تماما مع نظرة الدين إلى الإنسان الذي اختاره الله لخلافته في الأرض، وهو المخلوق الذي فيه نفخة إلهية أعطته الاستعداد ليكون في مقام أعلى حتى من الملائكة عند الله. المطلوب من الفكر الديني أن يحرر نفسه من الثقافة الاستهلاكية وألا ينظر للإنسان بما توحيه هذه الثقافة، فالاستهلاكية تريد أن تكرس من حيوانية الإنسان وتريد أن ينظر الإنسان إلى نفسه على أنه جسد معجون فقط بالشهوات الحيوانية والرغبات الجسدية، ويأتي الفكر الديني ليصدق هذا الفهم ويبني دعوته وخطابه للإنسان على هذا الفهم وهذه الرؤية والنظرة غير الإنسانية للإنسان. 2- الثقافة الاستهلاكية ثقافة جشعة وغير إنسانية؛ لأنها في الأساس تريد أن تجرد الإنسان من إنسانيته وتجعل منه إنسانا يتمحور حول شهواته الجسمانية ومنافعه المادية، فهو يعمل أكثر ليقتني سلعا أكثر ويستهلك أكثر وهو يصادق ويصالح ويعادي بما تمليه عليه مصالحه المادية، فالثقافة الاستهلاكية غير مهتمة بالتراحم بين الناس؛ لأن المهم هو دفع الإنسان إلى تحقيق ذاته من خلال إشباع رغباته الجسدية. ويأتي الفكر ليستدرج هو الآخر إلى هذه الدائرة اللاإنسانية، والخطورة عندما ننتج فكرا دينيا بمثل هذه الخصائص غير الإنسانية. فعندما يكون لنا فكرا يؤخر من إنسانية الإنسان ليقدم أمورا أخرى ويعطيها الأولوية على الجانب الإنساني فإن هذا الفكر لا يستطيع أن ينتج مجتمعا إنسانيا عادلا كما أراد الدين، وعندما لا يكون الإنسان هو الأصل في هذا الفكر فإننا بالتالي نسمح لأنفسنا ونعطيها الحق لرفض الآخر وعدم الاعتراف بوجوده وحقوقه لمجرد اختلاف في العقيدة أو المذهب أو الرأي، وقد يصل الأمر إلى الاعتداء عليه في نفسه وفي حقوقه، بل قد ينظر إلى هذا الاعتداء على أنه عمل مقدس ينتظر فاعله رضا الرب عليه، وهذا ليس بغريب عن أي فكر يتخلى عن إنسانيته، فالتكفير والطائفية والعنف الديني والانغلاق على النفس وعدم التواصل مع الآخرين، كلها منتجات للفكر الديني عندما يتخلى عن إنسانيته، فالفكر الديني عندما يستمد ثقافته من الدين ينتج مجتمعا متراحما إنسانيا ومنفتحا على بعضه من دون تكفير ولا إقصاء، لكن هذا الفكر عندما ينقل ثقافته من الدين الحق إلى الاستهلاكية يقع في حبال الشيطان ويتحول هذا الفكر إلى أداة تعمل على تهديم المجتمع وخلخلة أمنه واستقراره. 3- الثقافة الاستهلاكية تريد أن تبسط الإنسان وتسطح وعيه، فهي تخلط بين التركيب والتعقيد، كما يشير إلى ذلك الدكتور المسيري في سيرته الذاتية، وهذا التبسيط والتسطيح يسهل للقوى المتنفذة الاستحواذ عليه والسيطرة على حياته. والفكر عندما يتأثر بهذه الثقافة الاستهلاكية فإنه هو الآخر يهتم بتبسيط الإنسان وتسطيح وعيه. الاقتصاد الاستهلاكي يريد للإنسان أن يعتمد في طعامه وشرابه على المعلبات والوجبات السريعة؛ لأنها تتناسب والإنسان البسيط الذي هو في نظرها هو الإنسان الطبيعي كما تدعي والفكر الاستهلاكي ومنها الفكر الديني المتأثر بالاستهلاكية يريد أن يقدم الفكر في علب جاهزة قادرة على أن تجلب النجاة والهداية والسعادة الدنيوية والأخروية للإنسان، وفي هذا أيضا تسطيح للوعي عند الإنسان، وعندما يحصر الفكر الديني نفسه في الجانب العبادي عند الإنسان ويقدم الطقوس العبادية على أنها كل التدين المطلوب من الإنسان وينسى الجوانب الأخرى من الدين مثل العدالة والإنسانية والأخلاق ومحاربة الفساد والنزاهة وإدارة المجتمع والاهتمام بكرامة الإنسان، فإن هذا هو الآخر فيه تبسيط للدين. الفكر الديني المنطلق فعلا من حضن الدين يريد للإنسان أن يكون فاعلا ومفكرا ويشرك في فكره وفاعليته كل مكونات وجوده، فحياة الإنسان ليست عاطفة فقط وليست عقلا فقط وليست جسدا وليست دنيا وليست آخرة فقط، إنما هي وجود مركب في حاجة إلى فكر ينسجم مع تعدد الأبعاد فيه، وليس في هذا تعقيد لحياته كما تقول به الاستهلاكية، إنما هو مخاطبة للإنسان بفكر يحتوي الإنسان كله، فالفكر الأحادي والمسطح ينتج إنسانا بلا شخصية وإنسانا بلا إرادة وينتظر من الآخرين وبالأخص المتنفذون أن يرشدوه إلى طريق الهداية وإلى ما يجب فعله وقوله، كما ينتظر الإنسان العادي الدعايات والإعلانات ليعرف ما يأكل وما يلبس وما يشرب وما يشتري، فالفكر الاستهلاكي ينتج إنسانا نمطيا، والإنسان النمطي إنسان موجّه وليس إنسانا صاحب إرادة وخيار كما أراد الله له. هل انتهى الحديث عن أثر الثقافة الاستهلاكية في الفكر، لا لم ينته، لكن إذا كان لا بد من ختام للحديث فإنه من الأهمية بمكان التأكيد على ضرورة تخليص الفكر وبالأخص الفكر الديني من أثر الثقافة الاستهلاكية، وهذا يتطلب منا تتبع المفاهيم التي قامت عليها الاستهلاكية كثقافة ومن ثم النظر إن كان لها وجود وحضور في قراءتنا الفكرية للدين حتى يمكن التعامل معها. هل ما ابتلينا به من استبداد وفساد وانتهاك لحقوق الإنسان والدونية في نظرتنا للمختلفين عنا في الرأي في إطار العلاقة مع بعضنا هي كلها لها علاقة بتسرب قيم وأخلاق هذه الثقافة الاستهلاكية إلى دائرة الفكر، فالحذر مطلوب والمراجعة المستمرة مهمة ونحن نشكل أفكارنا.