ليس بجديد ان تربط أبحاث التسويق بين السعادة والاستهلاك، فأكثر ما يشغل العقليات الاقتصادية الرأسمالية تلك العلاقة التي تربط بين منظومة الإنتاج والاستهلاك والتسويق حتى عن طريق اغراق المفاهيم العامة بالعلاقة بين الاستهلاك بكل أنواعه والسعادة ذلك الوهم الكبير أو الحقيقة التي لم يلمسها سوى ومضات هناك وهناك وهو في لهاث لا ينقطع.. واغراق المفاهيم العامة سيكون بالمزيد أيضاً من دراسات التسويق التي تنطلي اليوم على كثيرين - في غياب مفهوم أكثر دقة لتحديد معايير السعادة - تحت اشاعة نتائج تقيس توجه عينات هنا وهناك المهم ان تكرس معايير الاستهلاك الشره بكل أنواعه وأشكاله. في دراسة نشرت في بريطانيا تأتيكم البشرى، فالمصريون والسعوديون في مقدمة قائمة الشعوب الأكثر سعادة، أما كيف حدث هذا؟ فالدراسة التي أعدتها مؤسسة (جي. إف. كي) البريطانية التي تعنى بأبحاث التسويق، والتي اعتمدت عينة من 30 ألف شخص من 30 دولة وصلت إلى نتيجة رائعة ومطمئنة وتبشر بالخير، فالاستراليون يعدون أكثر شعوب العالم سعادة، يليهم الاميركيون، والمصريون جاءوا في المرتبة الثالثة، بينما تراجع البريطانيون إلى المرتبة الخامسة، السعوديون جاؤوا في المرتبة العاشرة.. أما في المجر فقد قال 35٪ انهم تعساء ومحبطون، وأظهرت دراسة العينة ان الشعوب في تركيا وجنوب افريقيا وبولندا غير سعيدة. يقول نيك كيرالي المسؤول عن الدراسة (ان الدراسة اعدت لتسجيل أساليب المعيشة المختلفة من بلد لآخر، وذلك بهدف معرفة العوامل المؤثرة على الاستهلاك في الأسواق المحلية، ومن المعروف - كما يقول - ان كلما زادت سعادة الإنسان، زادت رغبته في الاستهلاك، باعتبار ان المستهلك السعيد يشتري أكثر) صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 6/10/2005م. أعتقد ان من يعرف ان معايير السعادة، هي تعبير ثقافي أيضاً، وهي مرتبطة بالرضا بالدرجة الاولى يدرك ان الربط هنا بين السعادة والاستهلاك ربط ثقافي ساذج ومتجاوز لحقائق كثيرة. ومن هنا ندرك ان الدراسات التسويقية هي أمينة فقط لبيئتها التي تعمل من خلالها، إذا افترضنا دقة معاييرها حتى في البيئة التي تنتجها، ولن تكون نتيجة دراسة من هذا النوع سوى نكتة كبيرة فيما يتعلق بمنطقتنا حتماً، حتى اخذا بمعايير الاستهلاك والشراء التي تضعها الدراسة معياراً سياسياً في تحليل نتائجها. لن اتحدث عن مفهوم السعادة وهو مفهوم جدلي، افهم أن اضاءته لن تحقق الا بعاملين اولهما روحي يشع من الداخل بكل ما يمثله ذلك الاشعاع من وهج يغمر النفس بالرضا والسلام والآخر مادي حتماً مرتبط بتوفير الكفايات لحياة كريمة لا سواها. لكن هذا النوع من الدراسات لن يكون له هدفه أكثر من تسويق معايير خاصة تفتقد لمعنى الدراسة الأمينة سوى في جانب يتيم وهو القدرة على الشراء..أي انها جزء من منظومة معرفية تأسست على مفهوم خاص بالرأسمالية التي تعمل من أجل ازدهارها على خطين، خط إنتاج كبير لا يتوقف عن إنتاج السلع الضروري ومنها وغير الضروري وخط الاستهلاك الشره الذي يربط عجلة الاقتصاد بالقوة الشرائية لا سواها. الربط بين السعادة والاستهلاك مسألة ليست جديدة وهي جزء من منظومة اقتصادية لا تقوم للنظام الرأسمالي الغربي حياة بدونها. لكن ان تسوق فكرة السعادة في بلد مثل مصر يحتل المرتبة الثالثة على اعتبارات القوة الشرائية أو الرضا لتحقيقها تلك نكتة كبيرة لأي مشاهد أو مراقب أو متابع أو مطلع أو حتى سائح عابر في بلد مثل مصر. في بلد يقبع نصف عدد السكان تحت خط القدرة على الوفاء بالكفايات تخرج دراسة مستفزة مثل تلك تضع المجتمع المصري في المرتبة الثالثة بين شعوب العالم السعيدة!! ليس على اعتبار معايير الرضا في المجتمع المصري الذي يستهلك متاعبه اليومية في نكتة عابرة يقولها وهو يمضي يومه والرضا بين عينيه، ولكن باستدعاء معايير استهلاك لا تعنيه، اعتقد جازماً انها لا تعبر عن الحقيقة ولا تقترب منها مهما كانت العينة التي اخضعت لها الدراسة أو حتى الفئات العمرية التي توسلتها تلك البيانات. أما ان يكون السعوديون في المرتبة العاشرة وهي مرتبة متقدمة في معايير هذه الدراسة، فهذا أمر جميل ان تشعر النسبة الاكبر من افراد العينة بتلك السعادة الغامرة التي مكنهم منها ذلك الاستهلاك الشره، لكني اعتقد انها عينة ناقصة ومشوهة ويراد منها فقط تلمس سوق كبير يستهلك فيه كل شيء سوى ان تكون السعادة هي الجزء المعادل الموضوعي للاستهلاك. في سوق مثل السوق السعودية تنفق كل عام أكثر من 3 مليارات ريال على الاعلان التسويقي سنوياً، وغالبية تلك الاعلانات تخص سلعاً استهلاكية غير معمرة، وتركز على تعويض المستهلك عن وهم سعادة، ما اسهل ان تكون بالاقتناء والاقتناء وحده، وفي عالم اليوم ينفق على الاعلان الاستهلاكي ما يقارب 200 مليار دولار أمريكي، وغالبية تلك الاعلانات تستهدف تكوين عادات شرائية خاطئة وهي تمارس تأثيراً كبيراً على فئات المستهلكين من أجل مزيد من الشراء والاقتناء. هناك ضغط حقيقي عبر الاعلان الاستهلاكي خلق أزمات اجتماعية للأسرة والفرد، الذي أصبح يشعر انه مقصر وغير قادر على تلبية الحاجات الاستهلاكية التي تتدفق من كل حدب وصوب، خاصة مع شيوع ثقافة استهلاكية طبقية جعلت قيمة هذا الفرد مرتبطة بما يستهلك، وجعلت من هوس الاقتناء معادلا أساسيا في تقدير سلم الارتقاء الاجتماعي. وهناك نقطة في غاية الاهمية على الاقل من منظور يمكن مراقبته في المحيط الاجتماعي الذي ننتمي إليه، وهي ذات ابعاد نفسية مرتبطة بمعنى الاعتراف الاجتماعي، ففي ظل انزواء معايير كثيرة مرتبطة بهذا المفهوم وذات صلة بتقدير الإنسان من حيث قيمته ومواهبه وكفاءته الشخصية تتحول المسألة في منظور الاعتراف الاجتماعي، الذي اصبح هوساً اجتماعياً طاغياً في المقدرة على الاقتناء والاستهلاك المميز.. فلم تعد المسألة هي تحقيق الكفايات، بل اصبحت في نوعية هذه الكفايات ومدى تطورها ومدى مسايرتها لسوق السلع الذي يرمي بكل جديد، ومن ثم اصبحت معايير الاعتراف الاجتماعي ذات معايير استهلاكية تتوسل بالتميز على مستوى الاقتناء حتى لو خلت من أي روح أو معنى أو تحقيق احتياجات خاصة لها قيمة في ذاتها ولها ارتباط بحاجة المستهلك ومتطلباته. ولذا ليس من الغريب ان تستغل بعض الشركات تلك الحاجة للتميز عبر الاقتناء السلعي، لإنتاج (موديلات) مختلفة من الأجهزة والكماليات حتى يصبح الجهاز الذي تم إنتاجه قبل سنتين أو ثلاث أو بضعة سنوات ومازال مؤدياً للحاجات التي صنع من أجلها تعبيرا عن حالة تخلف عن مواكبة الجديد، وبالتالي عن القدرة على مواكبة سوق استهلاكي شره، وفي الأخير تعبير عن النزول درجة أو درجات في سلم الاعتراف الاجتماعي، الذي تتراجع كل معاييره الإنسانية والابداعية والاخلاقية لتحل محلها معيار الاقتناء ونوعية الاستهلاك وتوسل مظاهره العاجزة عن التعبير سوى عن حالة تشوه اجتماعي وارتباك في القيم وانهيار في منظومة أخلاقية تعلي شأن المال والمال وحده الذي هو القادر لا سواه على توسل هذا الاعتراف عبر القدرة على الاقتناء. قبل فترة وجيزة أعلنت احدى شركات صناعة التلفزيونات - وعبر وكليها في جدة - عن إنتاج عدد محدود من تلفزيونات التميز المطلية بالذهب، والتي تبلغ كلفة الجهاز الواحد منها 300 ألف ريال فقط. وهي تعبير عن مواكبة حاجة سوق يبحث عن التميز، ومميزون يبحثون عن اعتراف اجتماعي مفقود لا يأتي سوى عبر اقتناء سلع مكلفة ومختلفة من أجل اشباع جوع الاعتراف لا سواه. وقس على ذلك اشياء كثيرة مازالت تصدمنا كل يوم بمدى الحاجة لاعادة فهم هذه المنظومة المرتبكة في العلاقة بين الاشباع النفسي والشره المتزايد للاقتناء والاستهلاك. لست بحاجة لأذكر ان المنظومة الثقافية والمعرفية التي ننتمي اليها وهو الإسلام في تجلياته الكبرى ومفاهيمه حول الإنسان والكون والحياة، ربط السعادة بالسلام مع النفس والرضا عن الذات والتمتع بطيبات الحياة، أي بالتوازن بين حاجات الروح والجسد أو بين الإيمان بقيمة الإنسان في الحياة ومعنى الوجود وبين حاجاته الطبيعية للكفايات والتمتع بطيبات الحياة الدنيا {وابتغ فيما اتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا}، إلا ان المشكلة لا تكمن في النظام المعرفي قدر ما تكمن في التشوهات الحادة التي تسرق المفاهيم الطبيعية للاستمتاع بالحياة الدنيا، حتى تصبح شرها قاتلا لفكرة الجمال واستحواذاً مؤذياً من أجل التميز الموهوم، وفرزاً رديئاً في ترتيب العلاقات الاجتماعية واستلاباً عاماً عنوانه: ماذا تقتني اقول لك من أنت. ولست بحاجة أيضاً إلى ان اذكر انه حتى هذا الغرب الذي تقوم شركاته على ترويج ثقافة الاستهلاك باعتبارها مقوماً اساسياً في عملية الإنتاج الكبير مقابل فتح قنوات الاستهلاك الاكبر وتيسير سبل الاقتناء، مازالت مجتمعاته تبحث عن السعادة ومازال خبراؤه في علم النفس والاجتماع وفي الصحة النفسية تبحث عن تلك الحالة من الاشراقة النفسية المفقودة رغم انها تتوافر على كل المقومات المادية والقدرة على الاقتناء التي تجلب سعادة الدراسات والبحوث الاستهلاكية. يقول بول زان بليزر مؤلف كتاب (ثورة العافية): «إن صناعة التريليون القادمة بعد السيارات وتكنولوجيا المعلومات ستكون في الأعمال الوقائية التي تساعد الناس على الوصول إلى السلام والصحة والعافية». ولذا لا تستغربوا ان تطالعكم غداً اعلانات ترويجية لمعاهد السعادة ومراكز التدريب على اقتنائها.