التعريف: قال تعالى: "قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إلٰه غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون, و من رحمته جعل لكم الليل و النهار لتسكنوا فيه و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون". تعاني دول كثيرة من مشكلة التلوث الضوئي, فقد وضعوا منظمات (مثل المنظمة العالمية للسماء المظلمة) و عقدوا المؤتمرات و استمروا في الأبحاث لمعرفة مخاطر هذا التلوث المحتملة, و نحن لم نحرك ساكنا بالرغم أن كثافة إنارات مدننا أقوى بمائة مرة تقريبا و بدون مبالغة من كثافة إناراتهم. يشكل مركز المدينة المنطقة المنيرة فقط في معظم دول العالم (بما فيها الدول المتقدمة) و هي منطقة صغيرة قد لا تتجاوز مساحتها 5 كم مربع تقريبا, بينما تشكل الضواحي في المدينة الجزء الأكبر فيها, و قد تكون مساحة الضواحي في المدينة الصغيرة 1000 كم مربع تقريبا. انظر إلى الفرق بين المساحة الأولى المضيئة و الأخرى القليلة الإضاءة, و لو سافرت إلى مدن عديدة و تجولت في ضواحيها لرأيت كيف يعيش كل سكان العالم ليلا, فهم يأخذون ما يكفيهم من الضوء ليلا و ما يكفي المارة في شوارع الضاحية,فمن يريد السهر يذهب إلى مركز المدينة و من أراد الهدوء بقي في ضواحيها الشاسعة, و هذا حاصل في معظم دول العالم (إن كنت لا تعلم). يستخدم كل سكان الضواحي تقريبا حساسات في الإنارات الخارجية لمنازلهم, لا تعمل إلا عند اقتراب شخص منها. و في السعودية فإنك تجد الشارع الفرعي الصغير (في كل مكان في المدينة, شرقها و غربها, جنوبها و شمالها) ينار أكثر من إنارات مراكز مدن العالم ليليا و من المغرب إلى الفجر و قد لا يكون أحد بجوار هذه الإنارات ليستفيد منها, فتضاء فترة طويلة جدا دون فائدة, و قد تبقى الإنارات الخارجية لمنازل كثيرة مضاءة دون هدف طول الليل, فمن المستفيد من تشغيل هذه الإنارات و أصحاب المنزل نائمون؟! يا للعجب. إنه الإنسان وراء كل هذه العواقب حتى أن الكثير لا يمكن أن يستوعب مصطلح (التلوث الضوئي) بسبب سلوكه الشاذ. لك أن تتأمل في هذه المسألة و ستعرف الخطأ الكبير الذي نحن فيه و اسأل نفسك لماذا كل دول العالم شاركت في حملة ساعة الأرض؟ هناك ثلاثة أنواع رئيسية للتلوث الضوئي و هي: الوهج و هو صعوبة الرؤية في وجود إضاءة مبهرة قوية و ما أكثر هذا في السعودية. صورة: وهج قوي على شكل دوائر ضوئية يؤثر على جودة الرؤية من الإنارات الغير مغطاة بعاكس (Non-cutoff lights) و كأنها عشرات الشموس في إحدى شوارع محافظة الطائف, و هي الإضاءة المنتشرة في كل مدننا, و يظهر وهج السيارات من الناحية الأخرى لتكتمل المشكلة*. تلوث السماء بالضوء (skyglow) و هو أحد أسوأ أنواع التلوث الضوئي و هذا منتشر في كل شارع, فهناك 50% من الضوء تذهب لهذا النوع و سبب ذلك هو عدم تغطية الإنارات بعواكس فيصعد الضوء عاليا إلى السماء بدلا من أن ينير الطريق. إحدى الحلول المستخدمة في بعض الدول هي إنارات مغطاة من نوع (Full-cutoff) لمنع انبعاث الضوء في السماء كما في الصورة. هل نحن بحاجة لأن يكون الضوء في السماء؟!! ما نحتاجه هو إنارة الطريق فقط. هل فكر أحد فينا عن هذا الإسراف, لو افترضنا أننا ندفع مليار ريال في الإضاءات, فإن 500 مليون تضيع في هذا الضوء مع الأسف الشديد و هو الضوء الذي يحجب آلاف النجوم و يلوث السماء بالغازات الضارة و هناك مخاطر لم يكتشفها البحث العلمي حتى الآن. لو كانت 100 واط على سبيل المثال كافية لإنارة مكان ما, فإن استخدام أكثر من ذلك (و هذا شائع جدا) يعتبر أكبر إسراف, كما أننا في كثير من الأحيان نستخدم إضاءات أكثر من الحد المسموح بعشرات المرات, و قد جاءت الشريعة بتحريم الإسراف. أستطيع أن أقول أن كل إناراتنا غير مغطاة و لم ينتبه لهذا أحد. الضوء المتعدي, و المقصود بذلك هو أن يتعدى الضوء الغرض المقصود (و هو إنارة الطريق) فينير المباني و المنازل المجاورة. وضعت مدن كثيرة قوانين للتخفيف من هذا التلوث رغم الفرق الكبير بيننا و بينهم كما أشرت, و منها كندا, بولندا, تشيلي, ليثوانيا, بريطانيا, أمريكا, و غيرها. ابتكرت بريطانيا إنارات ذكية ذات نظام حساس في الطرقات و الشوارع تنطفئ إذا لم يكن أحد بجوارها. إن إحدى الأفكار الخاطئة هي أن التلوث الضوئي مشكلة الفلكيين فقط, لا بالتأكيد, فالمشكلة أعظم من ذلك بكثير. هناك أنواع عديدة للإنارات فمنها الصوديوم قليل الضغط و هو أفضل الأنواع و هناك صوديوم عالي الضغط, و إنارات الهالوجين و الانارات الفلوريسينية (و هي منتشرة في المنازل). لن أقول نريد أن نصبح أفضل من بقية الدول بل سأقول متى سنتواضع و نعيش كما تعيش مدن العالم و نقوم بالتغطية حتى تتحسن الرؤية. الضوء مفيد بلا شك, لكنه يصبح ضارا بكل تأكيد عند عدم استخدامه بالشكل المطلوب و عند عدم الحاجة له. لا أقصد قطع الإنارات أو إزالة ما هو أساسي لنا, فهناك تصميم غاية في الدقة للإنارات (كما حصل في كثير من الدول بسبب وجود متخصصين أكفياء بمعنى الكلمة) و هي أفضل بكثير من الإنارات الحالية و ينقصنا متخصصون في هذا المجال. عند إعادة تصميم الإضاءة عن طريق المتخصصين ستكون الرؤية أفضل (و هو الغرض الأساسي من إضاءة الليل) و ستمنع وجود الضوء في السماء (حيث لا يراد) و ستتحسن رؤية النجوم بشكل لا يصدق و هذا من دواعي التأمل. قال تعالى " إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب, الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار". عدم التصميم الجيد و التوجيه الخاطئ للإنارات ليلا هو الذي جعل أكثر الناس غير مهتمين في الفلك و الأجرام السماوية. عندما نزلت هذه الآيات و قرأها الرسول -صلى الله عليه و سلم- بكى حتى بلّ خدّيه و لحيته, و قال لقد أنزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها و لم يتفكر فيها. المخاطر: هناك أضرار صحية و بيئية و اقتصادية و فلكية و غيرها. على سبيل المثال, يرتفع معدل سرطان الثدي عند التعرض الزائد للأضواء ليلا و قد ازداد هذا المعدل بعد ازدياد الانارات في العقود القليلة الماضية. التلوث الضوئي أو التعرض للضوء ليلا (LAN' exposure to light at night) هو أحد أسباب زيادة السمنة كما أكد ذلك بحث من جامعة ولاية أوهايو قبل أعوام قليلة و قد ازداد هذا المعدل بشكل ملحوظ بعد انتشار الأضواء و أكد ذلك عالم الأبحاث البروفيسور راندي نيلسون. أكبر عامل يؤثر في الساعة البيولوجية هو التعرض الزائد للضوء, فتجد اضطراب المزاج و ارتفاع معدل الاكتئاب و تغير الهرمونات الجنسية و الاستقلابية و حتى النواقل العصبية (مثل السيروتونين) بسبب تأثر الوطاء في الدماغ ب(LAN). الكثير منا يسمع عن هرمون (الميلاتونين) الذي يفرز في الظلام, حتى أنه سمي بهرمون الظلام, و هو موجود عند الحيوانات أيضا, لديه خصائص كثيرة أهمها أنه أحد مضادات الأكسدة و السرطانات. قال تعالى في سورة غافر "الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه و النهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون". نحن لا نريد حتى شكر الله تعالى على نعمته العظيمة التي أقسم الله بها و هو الليل الطبيعي. قال ستيفين لوكلي من جامعة هارفارد, التعرض لكثافة 1000 لكس من الضوء يقلل الميلاتونين بنسبة 100% من الدم, و التعرض لمدة 6 ساعات و نصف للضوء الذي يحتوي على الطيف الأزرق أو البنفسجي كما في الأنوار الفلوريسينية يقلل الهرمون بنسبة 90%. إن ما نعيشه الآن ليس ليلا, بل هو نهار صناعي. و من الناحية البيئية, قدم علماء في جامعة كلورادوا نتائج بحث نهاية عام 2010 م, جاء فيه أن هناك منظفات كيميائية طبيعية (تسمى شقوق النايتريت) تزيل بعض الغازات الضارة المنبعثة من السيارات و المصانع ليلا مثل ثاني أكسيد الكربون (CO2), إلا أن أضواء الليل الدائمة تقلل فعالية هذا المنظف الطبيعي و تقوم بتكسيره, فازدادت نسبة غاز الأوزون بمعدل 7% جراء الأضواء, و بعدها بشهر تقريبا اتخدت أكثر من 300 مقاطعة بأمريكا قوانين للتقليل من التلوث الضوئي, ناهيك عن غازات الاحتباس الحراري التي تنبعث بنسبة مذهلة بسبب الأضواء الليلية و كلنا نسمع عنها كثيرا و هي تقوم برفع درجة الحرارة و ذوبان الجليد. السهر هو أحد المشكلات الاجتماعية العويصة التي خلفتها الإنارات الزائدة و أرّقت الشباب. تموت كثير من الطيور عند هجرتها ليلا لأنها تهتدي بالنجوم الباهتة ليلا في معرفة الاتجاهات فتموت منها ملايين كل عام حتى أنهم سموه بالضوء المجرم و هذا صحيح و قد حصل ذلك في دول عديدة و ما زال يحصل. قال تعالى: "و علامات و بالنجم هم يهتدون". نحن نتعجب من النفوق الجماعي للطيور في بيئتنا و لم يعلم أحد السبب, و إذا تأملت نسبة التلوث الضوئي في تلك المناطق البيئية في السعودية لوجدتها تفوق إنارات مراكز المدن, علما أن هذه المناطق البيئية و الحدائق الوطنية متفق في كل البلدان على أن لا تكون فيها إنارات حفاظا على البيئة. هناك طيور تتأثر كثيرا و بعضها يتأثر فيسيولوجيا و بعضها يتضرر نفسيا. هل تعلم أنّ الكائنات الليلية أكثر من كائنات النهار, و هي كائنات لا تتأقلم إلا في الليل الطبيعي!! و من قسم علم النفس في جامعة ولاية متشيقان يؤكد الباحثون اضطراب الحالة النفسية عند الكائنات الليلية في وجود أضواء الليل. من الطيور التي تناقصت أعدادها هو طائر الدّوري و سبب ذلك أن في كل ليلة تموت مليون حشرة (كما في دراسة) بسبب حرارة الإنارات, فلم تجد الطيور حشرات لتتغذى عليها و هذا من التأثير غير المباشر و هو بلا شك انقلاب للتنوع الحيوي. من الكائنات المتأثرة أيضا الطيور الخواضة, الطيور المغردة, الخفافيش, العثّة, الزواحف, السلاحف, الضفادع, السلمندر و كائنات بحرية كثيرة و بعضها مجهرية, و المخيف جدا أن النقص في بعض أنواع تلك الكائنات وصل إلى 98% و أكد الباحثون البيئوون أن السبب الرئيسي هو التلوث الضوئي. الأشعة فوق البنفسجية التي تصدرها الأضواء الفلوريسينية هو أخطر الأطياف على العين, و لديه خصائص أخرى كتكسير الحامض النووي (د.ن.أ) و هذا معروف أيضا. و لاثبات أن الضوء مجرم في حالات كثيرة (و ليس في كل الحالات) فقد رفع سكان هونج كونج أول دعوى قضائية ضد التلوث الضوئي في الخامس من مارس عام 2011 م و أن الضوء الزائد من اللوحات الإعلانية يضر بمستوى معيشتهم. لقد فرحت بانظمام السعودية إلى اتفاقية التنوع الأحيائي عام 2001 م و هي اتفاقية تلزم حكومات الدول بالمحافظة على الموارد الطبيعية و استخدامها بشكل دائم, وكذلك تم اختيار المملكة العربية السعودية من بين 170 دولة كعضوية دولية في مكافحة التغير المناخي و نرجو أن نكون أهلا لذلك. أخيرا, لقد حجب وجود الضوء في السماء (skyglow) أكثر من 99% من النجوم الباهتة الجميلة حتى أن معظمنا لم يشاهد حزام مجرة درب التبانة المذهل و لم يشاهد عددا كبيرا من النجوم مع الأسف, و هذا كله من دواعي التفكر في عظمة الخالق. قال تعالى: "تبارك الذي جعل في السماء بروجا و جعل فيها سراجا و قمرا منيرا", فأين هذه البروج الباهتة؟!! يقول بوب ميزون (و هو مؤسس حملة السماء المظلمة في بريطانيا): "يستغرق الضوء الصادر من النجوم و المجرات مئات و آلاف و حتى ملايين السنين الضوئية ليصل إلينا. كم هي مأساة أن تضيع في آخر جزء من الثانية من رحلتها". لقد كره الرسول -صلى الله عليه و سلم- الحديث بعد العشاء, فمن منا ملتزم بهذه السنّة؟!! نحن أكثر من ندعي المحافظة و في الوقت نفسه نحن أكثر من نتخلف عن تطبيق ديننا, فنحن نشاهد الدول تتسابق لتطبيق السنة و إعادة الليل الطبيعي و ما زلنا نطالب بإنارات أكثر دون فهم في كيفية التصميم الجيد الذي يتناسب مع احتياجاتنا و قد نعيد جزءا من الليل الطبيعي و في نفس الوقت نستطيع الرؤية بشكل أفضل. صورة: الحزام الضبابي لمجرتنا و آلاف من النجوم في مكان غير ملوث ضوئيا (يسار) مقارنة بالاضاءة الاصطناعية (CfDS). الحلول: -وضع حساسات في الإنارات حتى تطفأ إذا لم يكن أحد بجوارها و هذا موجود في منازل كثير من البلدان. -استخدام أنواع من الإنارات مغطاة لمنع الوهج و تلوث السماء. -إعادة توجيه الإنارات للأسفل لإنارة الطريق بدلا من إنارة المنازل و السماء. لن يجبرك أحد على الالتزام بما ذُكر, و لك الحرية في تشغيلها و إطفائها في أي وقت تريد, فأنت صاحب الإنارات الخارجية لمنزلك و لكن أحببت النصيحة فقط فنحن المسلمون حقا و أولى من الغرب في تطبيق أستراتيجية التغطية على الأقل و عدم الاسراف. صورة: الإنارات المغطاة (full cutoff) توجه الضوء للأسفل حيث يراد و تمنع تلوث الضوء في السماء. لاحظ أن منظر الرجل أصبح واضحا عند التغطية لأنها منعت الوهج الذي يؤثر على الرؤية الجيدة و أصبحت النجوم فوقه ألمع لأنها منعت تلوث الضوء في السماء**. أسأل الله أن يرشدنا إلى الفطرة السويّة. تقبلوا تحياتي. عبدالرحيم حكمي – جيزان. 15/6/1432 ه [email protected]