في البدء ليس لنا إلا أن نعترف بموقعنا الأقصى في الحضارة الإنسانية المعاصرة، وأن منزلتنا المتدنية بين الأمم في سباقها المحموم للهيمنة والقيادة عن طريق العلم والإنتاج هي التي تدفع إلى السطح تيارات فكرية مختلفة تبحث عن الخلاص من هذا المأزق الحضاري حسب رؤيتها ونهجها الأيدلوجي!. في البدء ليس لنا إلا أن نعترف بموقعنا الأقصى في الحضارة الإنسانية المعاصرة، وأن منزلتنا المتدنية بين الأمم في سباقها المحموم للهيمنة والقيادة عن طريق العلم والإنتاج هي التي تدفع إلى السطح تيارات فكرية مختلفة تبحث عن الخلاص من هذا المأزق الحضاري حسب رؤيتها ونهجها الأيدلوجي!. ابتدأ مشروع النهضة العربي قبل أكثر من مائتي عام وأسئلة هذه النهضة واشكالاتها تكرر نفسها وإن كانت بصيغ مختلفة تتراوح بين السلم والعنف، والانغلاق والانفتاح، والقبول والاقصاء. لا زلنا ندور في الحلقة المفرغة نفسها: الصراع بين الأصالة والمعاصرة، هذه الجملة التي قتلت بحثاً، وأدارها المفكرون والدارسون حتى فقدت إيحاءها الأصلي وغدت لا تدل على شيء محدد. إن كل الصراع الاجتماعي والسياسي في عالمنا العربي قائم في أساسه على السعي إلى فهم دقيق لكيف نكون؟ وكيف نتقدم؟ وماذا نأخذ من الغرب وماذا ندع؟ وما هو المفهوم الديني الحق الذي يمكن أن يجيب عن هذه الاشكالية؟ وما يحدث من عنف واقصاء وربما تصفية ودماء في وطننا العربي الآن أو في السنوات المتأخرة ليس إلا صورة جلية من استبداد هذا القلق النفسي والايدولوجي بعالمنا العربي والإسلامي للوصول إلى حلول، أو انتزاع منزلة بفكر كل تيار إن هذا هو الحل الأجدى للوصول إليها، فنشأت جماعات راديكالية متطرفة آمنت بمبدأ التفسير الأوحد والرؤية الواحدة للحياة وللمجتمع وللحضارات المختلفة، واعتمدت طريق العنف والاقصاء، وتجاوزت المجالات الفكرية السلمية المشروعة للإجابة عن مشكل النهوض الحضاري، تلك التي كان يجتهد في نحتها وصقلها مفكرون يتلمسون طريقاً مشرقاً لهذه الأمة وفق اجتهادات فكرية ذاتية، وفق كثيرون منهم إلى بلورة مفهومات واضحة عن: كيف ننهض؟ وشط بعضهم بعيداً، وجدف بعضهم، ونأى بنا بعضهم إلى أن طلب منا أن نكون كما هم لا كما يجب أن نكون، وربما تبادر إلى الذهن من هؤلاء ما يوضح ويبين عن هذه الاشادات التاريخية، مثل: الإمام محمد عبده، وتلميذه محمد رشيد رضا، وجمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهطاوي وقاسم أمين، وخير الدين التونسي، وعلي مبارك، وجورجي زيدان، وسلامة موسى، وطه حسين، وحسن البنا، ومالك بن بنى، وسيد قطب، وغيرهم، ونلحظ أن هؤلاء جميعا يحملون في دواخلهم مشروعات فكرية مجتهدة للإجابة عن إشكالية النهوض، وإن كان بعضهم يتقاطع مع بعض، بل قد ينفيه ويقصيه من حيث المنطلقات، إلا أن الحيرة لا تزال مهيمنة على التيارات الفكرية الجديدة التي ربما تناسلت من ذلك الجيل، أو ساعدت الأحوال السياسية والاجتماعية المستجدة على توليدها، بل ربما تحول السؤال والبحث لا إلى مثالية فكرية واحتشاد اجتهادي للوصول إلى رؤية مقنعة والتبشير بها، بل انتقل من عمل الحقل الفكري إلى عمل الحقل الفكري الميداني المسلح، ونشأت كردة فعل على خيبات النهوض العربي والإسلامي وحيرة الوصول إلى المنزلة المبتغاة حضارياً بين الأمم المتزاحمة جماعات العنف المسلح التي تبحث عن موقعها الذي تطمح إليه في هذا التغيير بالقوة الجبرية والدماء والتصفية مثل: جماعة الإخوان السعوديين الذين عارضوا الملك عبدالعزيز رحمه الله في مفهوم الدولة الحديثة حتى اضطر إلى القضاء عليهم بعد حوار طويل مع قادتهم في معركة السبلة المشهورة عام 1348ه، ثم جماعة جهيمان التكفيرية وهي امتداد طبيعي للحركة الأولى وتكرر المقولات نفسها وإن كانت بصيغ أخرى جديدة حسب المتغيرات الحضارية التي جدت، وقد قضي عليها عام 1400ه، ثم جماعة التكفير والتفجير التي بدأت أول أعمالها العنيفة ضد الدولة والمجتمع عام 1423ه في الثالث والعشرين من الشهر من الثالث باكتشاف مستودع الذخيرة الضخم في حي الجزيرة، وإن كان البعض يرى أن حادث تفجير العليا عام 1416ه هو البدء الحقيقي لهذا المسلسل الدموي البشع الذي استمر إلى قرب نهاية عام 1426ه وطال أذاه وبشاعته ودمويته الآمنين من مدنيين وعسكريين وذميين متعاقدين، وأشغل الدولة والمجتمع قرابة أربع سنين دامية. هذا الفكر الظلامي الأسود ليس إلا صورة من صور الانتكاس والقلق من الواقع العالمي الحضاري والعجز عن مواجهته والحوار معه بمصادمته وبمعاداته وإعلان النفير الإسلامي ضده في أنحاء الدنيا كافة؛ من خلال التنظيم الدولي المسمى: الجهة الإسلامية العالمية لمحاربة الصليبيين، والتي تبلورت فيما بعد تحت مسمى: القاعدة! وفكر القاعدة هذا هو خلاصة لشتات مجتمع من تيارات حزبية متعددة، كجماعة الجهاد، والسلفية الجهادية والجماعة الإسلامية، والإخوان المسلمين، وجماعة شكري مصطفى، وجماعة صالح سرية، وغيرهم، وتستأنس بكتب عديدة تشرع لها هذا العنف، وتستلهم منها الدليل على سلامة هذا المنهج الدموي العدواني، ولعل أشهرها كتاب الفريضة الغائبة لمحمد عبدالسلام فرج، والكواشف الجلية لأبي محمد المقدسي. لقد بلغ معنى هذا العنف غايته القصوى التي قسمت العالم كله إلى فسطاطين؛ كافر ومؤمن! حسب رؤية زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن؛ وذلك في الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001م؛ ذلك اليوم الذي جر العالم خلال سنوات ثمان تلته من حكم غير المأسوف على رحيله جورج بوش إلى معترك ساخن من الاقتتال والمظالم والانتقام الأهوج الأعمى من كل ما هو إسلامي يقع في مرمى الغضب الأمريكي أو شبهته فتعرضت بلدان إسلامية وعربية بسبب ذلك الحادث المشؤوم إلى التدمير وأنزلت عليها آلاف الأطنان من الديناميت حتى غدت أرضاً محروقة، وروج الإعلام الأمريكي لتبرير احتلاله العراق لمقولات مكذوبة لم يجد الغزاة ما يصدقه كالبحث عن أسلحة نووية مثلاً، فغدا هذا الغزو في التاريخ الإنساني الحديث سقطة لا تغتفر من سقطات الحضارة الأمريكية مثلها خير مثال ما جرى في سجن أبي غريب، وما دون من حالات انتهاك لحقوق الإنسان كالاغتصاب والقتل العشوائي غير المبرر! إن غاية هذا السرد التاريخي إثبات أن التطرف يقود حتماً إلى خلق تطرف آخر مضاد. وأن الصدام الاجتماعي السلمي منه والعنفي في المجتمع العربي والإسلامي هو ليس إلا صورة واضحة للحيرة المقلقة المحضة للبحث عن مسار وللوصول إلى رؤى مطمئنة تفسر كيف يمكن أن تظهر للوجود صياغة جديدة منافسة أو على الأقل مكافئة للحضارة الغربية!!. وهو الحلم اليوتوبي الفاضل الذي لا زال يسرح خلفه الحالمون من المفكرين والثائرون من العاطفيين والعاملون من المخلصين الذين كثيراً ما يصدمهم واقعهم العربي الاجتماعي والتقاليدي أكثر مما يصدمهم سعي الغرب إلى عرقلة أي مشروع عربي إسلامي حقيقي للنهوض. ونحن ندخل إلى مرحلة جديدة من تاريخ العالم بوصول أوباما إلى السلطة في أمريكا لابد للعالم الإسلامي أن يقدم مشروعات جديدة للتعاطي مع هذه المرحلة الجديدة كما يحسن بالإدارة الأمريكية إعادة النظر في أساليبها القديمة التي نتجت كردة فعل على أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشؤومة. لقد دخل العالم كله بسبب العنف في دوامة مأساوية خسر بسببها أبرياء وأفلست بنوك وانتهكت حقوق وما تغير شيء من الماضي الذي يطمح إلى تغييره من ارتكب الفعل الآثم بسلوك المواجهة الدموية مع المختلف سواء كان دولة أو حضارة أو حتى فرداً! ونتيجة لوضوح هذه الحقيقة تمت (مراجعات) فكرية عند جماعات كثيرة، ونشرت تلك المراجعات في الصحف، وفي كتب لاحقاً، ولعل هذا التراجع الفكري من (الجماعية الإسلامية) يكون حافزاً لغيرها للوصول إلى مرحلة مواجهة المختلف بالحوار بديلاً عن العنف الذي لن يفضي إلا إلى مزيد من العنف الآخر المقابل! وإذا كان عجز الفكر الاجتهادي في الصف (الإسلامي) بدا واضحاً في صورته الجلية العنيفة كما مر آنفاً، فإن عجز الفكر الاجتهادي في الصف الآخر المقابل (الليبرالي) يبدو أكثر عجزاً وأكثر ضعفاً، وأكثر حماقة! إن تطرف بعض فصائل العمل الإسلامي أو التي اتصفت برداء إسلامي لاكتساب مشروعية الفعل وإغراء الانتساب التكاثر من تلك الجماعات العنيفة المنغلقة على نفسها والتي تريد أن تعزل المجتمع الإسلامي عن محيطه العالمي، وعن الحضارة الإنسانية وعن تحديث الأنماط الاجتماعية وغيرها قاد ذلك التطرف إلى خلق تيارات مقابلة متطرفة هي الأخرى في التفكير والتنظير، وإن لم تستخدم العنف في سعيها إلى الدعوة أفكارها الليبرالية، والتبشير بها، فلجأت إلى وسائط الاتصال الحديثة، تبث رؤاها عبر محطات التلفاز- المدعومة من قوى غربية مثل قناة الحرة أو بعض الصحف أو منتديات الإنترنت وبشبكاته الغاباتية المكشوفة أو المستترة وراء مسميات وهمية لا يعلم من هم أصحابها في حقيقة الأمر! وإذا كنت أبرئ ساحة الليبراليين من العنف الدموي؛ فإننا لا يمكن أن ننسى من ذهب ضحية للثورات اللادينية الشيوعية في وطننا العربي لمجرد الاختلاف العقدي فحسب؛ في عدن، والعراق، والسودان، ومصر، وغيرها، بيد أن أكثر درجات العنف عند من يتوجهون توجهاً ليبرالياً هو الإقصاء والمصادرة الفكرية! ولا نعلم مدى ما يصلون إليه لو تمكنوا أو نالوا بعض قوة؟! ذلك أن هؤلاء في حقيقة الأمر ليسوا جماعة منظمة كما الإسلاميين، فلا رابطة لهم إلا الالتقاء الرمزي في الإنترنت، أو التلاقي الفكري بالمصادفة في المقالات، ولا مشروع نهضوياً واضحاً جلياً في طروحاتهم، وقد انتقل فكر التحديث النهضوي في بداية عصر النهضة بصيغ مختلفة إليهم واختلط فيه لحجاب الرمز والتعمية والستر العنكبوتي ما لم يستطع قوله من ودَّ التجديفَ أو انساق إليه من رموز الحداثة الأولى؛ فشاعت رؤى لا يجمعها رابط سوى النقمة على الواقع الاجتماعي برؤيته الدينية، وامتدت هذه الرؤى الثائرة إلى الخوض في المقدس واللاهوتيات والأخلاقيات، ونشأ وهمياً - على الشبكة العنكبوتية - ملحدون لهم منتدياتهم، ونماذج الإلحاد عند بعضهم بالرغبة في استنساخ الغرب بما له وبما عليه، وامتدت النقمة إلى كل ما هو جميل وسامٍ وعظيم من تراثنا العربي والإسلامي، وشاع عندهم تمجيد كل ملحد وزنديق ومانوي وشعوبي؛ كابن الراوندي، والحلاج، وابن الفارض، والحمادين الثلاثة، ووالبة بن حباب، ومن لف لفهم من القدماء، ونيتشة وسارتر، وعبدالله القصيمي وغيرهم من المحدثين الذين ينحون مناحي علمانية في التحليل والتفسير. ويمكن أن نلحظ اختلاط المفهومات التحريرية التي تحدد ملامح هذا المصطلح، فلا نجد تفسيراً جامعاً مانعاً؛ بل إن الحيرة تنتاب حتى من تصدى لمن يعرف بالليبرالية، فقد توصل د. ياسر قنصوه في كتابه (الليبرالية إشكالية مفهوم) إلى أننا ليس بوسعنا أن ندرك مفهوماً ليبرالياً محدداً يمكن أن تتصف به الليبرالية الجديدة التي ترفع شعارات ليبرالية من القرن الماضي، ولا يمكنك وضعها في منظومة فكرية معينة كما حدث على يد لوك، هوبز، آدم سميث، انظر ص211. هذا عن الليبرالية الغربية، فماذا عن الليبرالية السعودية الوليدة الغضة؟! يجيب عن مسألة وجودها من عدمه الكاتب عبدالرحمن الراشد في حوار أجرته معه صحيفة عكاظ (انظر ملحق الدين والدنيا) ص34، بتاريخ 26 محرم 1430ه، إذ يقول: (لا يوجد تيار، وليس ليبرالياً حقاً، عدا أنه لم يكن، ولا يوجد هناك صعود، بل هي فزاعة لتخويف الناس أو لتعبئة الأصوليين). صحيح ما ذهب إليه الراشد، بيد أن عدم الاعتراف بوجود تيار منظم لا يلغي أبداً وجود أفكار ناقمة على المجتمع والدين، منطلقة من عقدة الضرب على وتر التخلف الحضاري، ومعلقة كل الأسباب على شماعة الماضي.. الذي يلخص كل عوامل التخلف ويأخذ صفة الشماعة أو المشجب لتعليق أسباب نكوصنا الحضاري حسب مفهومهم!. وحتى وإن لم نجد مشروعاً حقيقياً للنهضة لديهم - لأنهم أقل عمقاً من زعماء التنوير - فإن طرحهم لا يخلو من نظرات تدعو إلى التوقف وتثير أسئلة لابد لها من إجابات عميقة وواعية من المفكرين الإسلاميين ليوقفوا استغلال وضع عالمنا العربي والإسلامي ومنزلته الحضارية المتدنية، ويقطعوا الطريق على هذا العبث الفكري المجنون بكل مقومات هذه الأمة وقيمها وهويتها؛ حيث يحفر بعضهم بصورة مستفزة في الغيبيات وفي التاريخ، وفي الجنس، وفي مسائل لا ينشغل بها سوى العلماء المتمكنين من القول في هذه المسائل؛ لكن إثارة التساؤلات وحدها كافية لزرع الشك وبذر بذور القلق من يقينية بعض المسلمات الغيبية، مما ينتج عنه نشوء جيل مضطرب مشتت تائه عقدياً وسلوكياً. ويتساءل مجاهد عبدالمتعالي في كتابه (سياط الكنهوت): لماذا الليبرالية السعودية ضعيفة بهذا الشكل؟ انظر ص156، وأجيبه لأنها تلفيق تائه من مدارس متعددة، ومن اجتهادات تاريخية قديمة وحديثة، وهي إلى ذلك كله لا تعبر إلا عن نزعات متمردة على الواقع، لا بحثا عميقا ودؤوبا ومجتهدا عن صياغة مثلى قادمة لهذا الواقع! ولئن كان الغرب يتسقط من يروج لأفكاره ولنمطه ولخياراته الحياتية وللوفاق معه حضاريا فقد وجد في نفر هش مندهش ضعيف مقلِّد ما يريد!! حيث يعبر كثير من المنضوين تحت لواء هذا التيار المتجمع من شتاتات فكرية متقاطرة عن رغبة جامحة في استنساخ (الغربي) بكل ما له وما عليه، وكأنهم يريدون إعادة الأسطوانة القديمة التي سعى إلى تردادها طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) عام 1938م وأكاد أذهب إلى أنه يصنع في هذا الكتاب المنطلق الأول لليبرالية بدعوته إلى نقل الثقافة الغربية بحلوها ومرها بصالحها وطالحها. على أنه حين تقدمت به تجربة الحياة تراجع عن هذه الرؤية المتعجلة مما يبين عن أنها اندفاع الشباب وتطلعه إلى تغيير الواقع المتخلف بأية صورة كانت! ومن يطلع على كثير من اللغو والهشاشة والتجديف وضعف الانتماء وإشغال المجتمع بقضايا هشة لا تقدم ولا تؤخر مثل السينما أو مشاركة المرأة في الأولمبياد وجزء من عالمنا العربي كان يباد وتسيل فيه الدماء أنهارا يطمئن إلى أن اندفاع النفر الليبرالي ليس مدعوما بمشروع نهضوي حقيقي؛ إذ إنه منسلخ من أمته، حيث لا يؤمن بمنطق (الأمة) ومتخلٍ عن محيطه، حيث لا يؤمن بمنطق القومية؛ ومقبل - دون عميق وعي ولا إدراك - على احتذاء الآخر المختلف في صورة انهزامية تابعة مستذلة! وبرغبة مخدرة في استنساخه جملة وتفصيلا. ونعلم أن الانجرار الأعمى وراء الآخر دون حسابات للعمق الشعبي الاجتماعي أو البعد الديني قد يقود إلى رد فعل معاكس كما حدث في إيران بعد تجربة التغريب المندفعة التي قادها الشاه وأوقفها الخميني بالعودة بقوة إلى الخلف! وقد تصاعدت - ونحن نوازن تجارب النهوض والانتكاص - تجربتنا التحديثية السعودية بصورة عقلانية متئدة، ومرت في طريقها الطويل الذي بدأ عام 1351ه بتوحيد المملكة وإلى اليوم بعقبات وردات فعل تم احتواؤها، والمجتمع الرشيد هو من يتئد في خطوات التغيير للحفاظ على الهوية، وإثبات الذات، وحمايتها من الذوبان، وإن التأكيد على تعميق ذلك في الاتجاه التعليمي العلمي بافتتاح جامعات تكنولوجية، وتكثيف البعثات، والتدرج في تحويل المجتمع إلى مجتمع مؤسسات قادر على تحديد خياراته ومستوعب معنى الحوار كفيل كل ذلك بالوصول إلى التحديث المنتظر الذي يحل إشكالية أسئلة النهضة المطروحة في عالمنا العربي والإسلامي منذ أكثر من قرن من الزمان! وقادر أيضا على احتواء مواجهة التطرف في حالتيه المذمومتين؛ التكفيرية الظلامية والليبرالية التغريبية. وفي وسعنا أن نستفيد من تجربة اليابان، ثم تجربة كوريا في النهوض العلمي دون تهشيم الهوية اليابانية أو الانسلاخ من الذات الكورية؛ فلماذا يريد منا الماضويون التكفيريون العيش وحدنا في التابو المحرم، ولماذا يريد منا التغريبيون الليبراليون الارتماء الأعمى في أحضان من لا يجمعنا معهم تراث ولا عقيدة ولا خلق ولا لغة ولا وجدان مشترك؟! لقد كتبت قديما عن الحداثة الفجة في سلسلة عنونتها ب(الشلليون) ثم كتبت عن التقليديين والحداثيين بمقالة طويلة عنونتها ب(بين تيارين) وها أنا أدخل من جديد في مواجهة التيارين نفسيهما ولكن بمسميين جديدين مختلفين؛ ولكن أرض المعركة وغاياتها وأهدافها وشخصياتها هي هي لم تتغير وكأننا ندور مع طواحين الهواء! فإلى متى هذا الصراع الفكري العبثي المعطل عن التقدم والبحث والمستهلك للطاقات، والباذر للكراهية والترصد والعداء؟! وهل نحن في هذا السبيل الجدلي من الصراع في طريقنا حقا إلى النهضة العربية الإسلامية المرتجاة؟! د. محمد بن عبدالله العوين [email protected]