هل تبادر إلى ذهنك يوما سؤال عن مصير الموت ى من غير المسلمين الذين يقطنون السعودية، خاصة مع حرمة دفن موتاهم في مقابر المسلمين؟ أين يدفن أولئك الذين لا تنقل جثامينهم في توابيت لتشحن إلى بلدانهم؟ الإجابة عن سؤال كهذا، استغرقت وقتا مطولا، إذ استمرت عملية البحث والتنقيب عدة أسابيع، لنكتشف بعدها مقبر ة غير المسلمين التي تقع في حي البلد بجد ة. هذه المقبرة التي يعود تاريخها إلى عام 1520 وما زالت تفتح أبوابها لاستقبال الموتى من غير المسلمين، رغم أن كثيرين لا يعلمون بوجودها، حتى من أهل جدة نفسها. نحن الآن في حي البلد بجدة. على سور ممتد، تتموضع لوحة ترقيم كتب عليها: «شارع مقبرة الخواجات 81». وخلف هذا السور يرقد مئات المسيحيين منذ ما ينوف على خمسة قرون. ورغم أن المقبرة تعتبر الآن واحدة من العلامات البارزة في حي البلد، لكنها تكاد تكون مجهولة لمعظم ساكني جدة. لمحة تاريخية تاريخيا ارتبطت جدة بالمسيحيين، بحسب ما يورد الرحالة والمؤرخون في كتبهم، إذ تذكر هذه الكتب أن جالية مسيحية صغيرة، أغلبها من أصل يوناني، كانت تعيش في جدة، وبالذات في العهد المملوكي. كان يفرض على المسيحيين في جدة ارتداء زي معين لتمييزهم ومنعهم من الاقتراب من منطقة باب مكة ، لكن مع قدوم العثمانيين للحجاز تم إلغاء ذلك. كما كانت لهم مقابر لدفن موتاهم في جنوبجدة خارج السور، آنذاك، بالقرب من شارع الميناء حاليا. كما تشير الكتب إلى أن عدد المسيحيين الموجودين في مدينة جدة في عام 1274م كان 100 شخص تقريبا. ويشير الرحالة الفرنسي ديديه خلال زيارته جدة عام 1854م إلى تلك المقبرة: «إذ لم يكن يسمح بدفن المسيحيين بجدة شأن مكةالمكرمة والمدينة المنورة، وكان يتم دفنهم في إحدى الجزر الصغيرة خارج جدة ». ووفقا للمدير العام للسياحة والثقافة بأمانة محافظة جدة المهندس سامي نوار فقد تأسست هذه المقبرة بعد حرب البرتغاليين على جدة: «توجد العديد من الخرائط التي تؤكد وجود هذه المقبرة منذ عهد البرتغاليين ، إذ إن لها علاقة بحصار البرتغاليين أثناء محاولتهم الاستيلاء على مدينة جدة عام 1520م، وفيها العديد من الأشخاص الذين ماتوا ودفنوا بسبب هذا الحصار». المقبرة الآن على باب القبر، علق أحدهم كيسا معبأ بالورود والحليب والقاتوه والشموع إلى جوار ورقة ملصقة على الباب مكتوب فيها رقم هاتف محمول. على الطرف الآخر رد شخص قال إنه حارس المقبرة، طلبنا أن نلتقيه فحضر بعد لحظات. يونس، هو اسم حارس المقبرة التشاد ي المسلم. كان أول سؤال بادرناه به هو عن محتويات الكيس، فأجاب: «إنه أمر مألوف وعادي. فذوو المتوفين دائما ما يزورون المقبرة ويضعون مثل هذه الأمور على قبور موتاهم. وفي حال لم أكن موجودا، فهم يتركون هذه الأشياء على باب المقبرة مرفقة باسم صاحب القبر». ويضيف يونس أن هذه العادة: « تكثر خلال أعيادهم». وعند سؤاله عن الحكمة من وضع الحليب والقاتوه أجاب: «هذه عادة لديهم. وهم يتضايقون حينما أسألهم عنها». من الداخل تحاط المقبرة بسور مرتفع . مساحته تقترب من الألف متر مربع، وفي داخلها تصطف مئات القبور، التي تعلوها شواهد من المرمر، حفرت عليها أسماء وتواريخ، وكثير منها محاط بالورود. ويؤكد حارس المقبرة أن هذه الأخيرة منظمة بحسب الأعمار: « الأطفال يأخذون جانبا، والكبار يدفنون في جانب آخر تماما». وعن إجراءات الدفن يقول يونس: «لا تختلف كثيرا عن تلك المتبعة في مقابر المسلمين، فعلى ذوي المتوفى أن يحضروا شهادة الوفاة وتصريح الدفن من السفارة التي يتبع لها». ووفقا ليونس، الذي يعمل حارسا للمقبر ة منذ 17 عاما، تشرف على هذه الأخيرة عدة سفارات أهمها السفارة الأمريكية والبريطانية والفرنسية: « في كل سنة تكون المقبرة تحت إشراف سفارة واحدة تتولى مسؤوليتها والإشراف عليها. وهذا العام تقع تحت إشراف السفارة الإثيوبية»، ويتابع: «للمقبرة ميزانية خاصة تشمل النظافة والتشجير والهاتف والمياه وراتب الحارس. ويتفقد شخص من الجهة المسؤولة المقبرة بزيارة شهري ة للاطمئنان على الأوضاع ومعرفة الحاجيات». يونس يقول إن أي مسيحي يتوفى داخل السعودية ولا يرغب ذووه في نقله إلى بلاده يُجلب إل ى هذه المقبرة: «كل أربعة أو ستة أشهر يدفن في المقبرة عدد يتراوح بين اثنين وثلاث ة مسيحيين معظمهم من الجنسية الفلبينية والهندية»، ويؤكد: «لدينا أيضا جثامين لجنسيتين عربيتين هما السودانية واللبنانية». ف ي داخل المقبرة يشير يونس إلى شواهد لقبور موتى قضوا في الحرب العالمية الثانية، كما يقف إل ى جوار قبر لجندي بريطاني مجهول الهوية قُتل في الحرب العالمية الثانية ويقول: «عند زيارة أي قنصل بريطاني أو غربي للمقبرة فلا بد أن يضعوا على هذا القبر الأكاليل». وتضم المقبرة أيضا جث ة أسترالي دفن عام 1885م، وألماني دفن هو الآخر عام 1912م بحسب الشواهد الموضوعة على قبريهما. ولا يخف ي يونس تذمره ممن وصفهم بالمتطفلين: «دائما ما يتسلقون سور المقبرة ليلا لمجرد الفضول، لكنهم أحيانا يعبثون بمحتوياتها». المرأتان الغريبتان في الجهة المقابلة للمقبرة يقع محل تموينات مجاور عمره 40 عاما. يقول صاحبه وهيب محمد شعبان: «هذه المقبرة قديمة جدا سيرتها متداولة هنا منذ القدم رغم أن ثلثي سكان جدة لا يعرفون موقعها وربما لم يرد على مسامعهم أن هناك مقبر ة أصلا للمسيحيين». يتابع: «كما ترى فمحلي مجاور لها ، وألاحظ أن معظم زبائني يسألون عما خلف السور، وحين أجيبهم بأنها مقابر غير المسلمين، لا تلبث أن تبدو على وجوههم ملامح الدهشة والاستغراب». ويلفت شعبان إلى ملاحظته الدائمة لتكرر زيارات ذوي الموتى للمقبرة: « غالبا يحملون معهم الحليب والورود والشموع وأكثر من ألاحظ امرأة وابنتها لا يمضي أسبوع دون أن أراهما. وعند استفسار ي من حارس المقبرة أخبرني أنهما أرملة وابنة شخص دنمركي مدفون هنا». ولم يخف صالح علي، صاحب محل كهرباء مجاور للمقبرة، تذمره من ملاصقة محل ه للمقبرة، إذ تعرض محله للسرقة ثلاث مرات على حد قوله: «المقبرة تشكل خطرا على محلي ، إذ يقتحم اللصوص المقبرة ليلا ويتسلقون الأشجار المجاورة للسور من الداخل ليعبروا من خلالها إلى المحل». صالح طلب إلى حارس المقبرة أن يوصله إلى المسؤولين عنها حتى يتمكن من قطع الأشجار: «لكنهم دائما ما يواجهون طلبي بالرفض القاطع. والآن ليس هناك حل إلا الاحتراس أكثر من اللصوص لكنهم يعاودون السرقة مرة تلو الأخرى، وأنا أكرر طلبي للمسؤولين عن المقبرة بأن يجدوا لي حلا فلقد ذهبت أموالي وبضاعتي بسبب أشجارهم»