من داخل البلد، وفي قلب جدة.. حياة أخرى في رمضان، حيث يسترزق الكبار ويكدح الأطفال وبالقوة يمدون لك السلعة، وبمثلها يستنزفون ما في الجيوب. ثقافات متنوعة ومبعثرة على جوانب الطرقات والأرصفة، تجمع بين الفوضى والتنظيم والترتيب والبعثرة، وفي النهاية هي مصدر رزق للكثيرين. “شمس” جالت في أروقة البلد، ولم تخلُ الجولة من المفارقات الغريبة، فحين وطئت أقدامنا المكان قدمت إلينا طفلة لم تتجاوز تسع سنوات بضاعتها بوضع يدها في جيب المصور ليفاجأ بأنها تبيعه علكا بالقوة الجبرية وتطلب منه بوجه كساه الخجل قيمة ما باعته قسرا.. هكذا تمضي الحياة ويحصل الناس على أرزاقهم تارة باللطف واليُسر، وتارة بالقوة الناعمة. علكة الطفلة كانت مدخلا لحوار معها اكتشفنا خلاله أنها وأخواتها الأربع ينتشرن في البلد يبعن نفس السلعة. تقول إيمان إنها تكدح لتأمين لقمة العيش لأسرتها، فوالدها لديه محل في البلد لخياطة الأحذية، ويساعدنه في توفير حياة كريمة تسدهم عن التسول حتى ولو كان البيع بالقوة، وتضيف: “أتمنى تحسين دخلي كي أجد في الإفطار كل ما تشتهيه نفسي”. وغادرتنا إيمان راكضة نحو زبون آخر ليصادفنا عمر الهاشمي الذي يبيع عطرا لم يستمتع برائحته؛ حيث إن الكمام الذي يضعه على أنفه أفقده لذة الاستنشاق. يقول: “أرتدي القناع خوفا من إنفلونزا الخنازير حيث أروج لسلعتي ولا أشمها إلا قبل حضوري هنا، وحين عودتي إلى منزلي محملا بالأطياب”. ويضيف: “انتشار الفيروس سبّب لنا قلقا وجعل الزبائن يخافون التطيب؛ لأنهم مفزوعون من تناقل الفيروس عبر الرذاذ، لكن صحتي أهم من أن أبيع ألف قارورة عطر، رغم أني مستأجر كشكي الصغير بأكثر من 36 ألف ريال سنويا”. وعلى الأرصفة ثلة من المتسولين الذي جاؤوا لكسب الموسم الرمضاني الذي وصفوه بشهر تزداد فيه جرعة الرحمة لدى المارة. ناصر علي، القادم من دولة عربية عن طريق التهريب، أعطيناه ما طلبه من المال كي يتحدث إلينا فقال: “جئت هنا عبر التهريب، وقد رحلتني الجوازات أكثر من خمس مرات، وهذه مهنتي أتوسل لأهل الخير كي يعطوني”. وخلال حديثنا معه حضر رجل يحمل بعض الغذاء، لكن (علي) رفضه بحجة أنه شبعان ولا يحتاج سوى إلى المادة، وحين سألناه عن الدخل اليومي راوغ كثيرا لكنه أفادنا بأن هذه أرزاق لا يحب الإفصاح عنها. وعلى الجانب الآخر حيث بسطات بيع البليلة يوجد أطفال من الجالية الإفريقية حيث لا يكاد يقف الزبون حتى يحضروا إليه بصحون بلاستيكية فارغة يطلبون أن يشتري لهم بعضا من البليلة كي يتعشوا بها، على حد قولهم، لكنها طريقة تسول جديدة علق عليها أحد المارة قائلا: “همهم بطونهم”. وعلى جانب آخر من أبواب الرزق هناك باعة الخردوات، حيث توجد إضاءات ملونة وبخور، بالكاد ترى القادم من الطريق الآخر، واستغلال للشهر الفضيل ببيع المصاحف والمساويك والأشرطة الدينية. أحمد الخولي، مقيم عربي، حول بسطته من بيع الحلويات إلى محل إسلاميات مصغر يبيع فيه أشرطة القرآن والمسابح، يقول: “كنت أبيع الحلوى والآن حولت نشاطي لما ترونه حيث إن لرمضان روحانيته وبضاعته التي لا تباع في سواه من الأشهر”. وهناك عمر (ستيني) يبيع المحافظ والحقائب الصغيرة تحت كبري الخاسكية، وتحت وطأة الظلام، ويعاني ضعف النظر لدرجة أنه يضيء بولاعة كي يتأكد من فئة العملة النقدية التي يأخذها من المشتري، يقول: “أختبئ في هذا المكان المظلم بعيدا عن أعين البلدية التي أصبحت تقدر كبر سني حيث إنني أصرف على عائلة كبيرة، ورجال البلدية نادرا ما يحضرون هنا، وحين يمرون لا يلتفتون إلي بل إنهم يصادرون بضائع غيري، لكن كبر سني هو واسطتي التي أستغلها في كسب الرحمة منهم، فهم يعرفونني منذ أكثر من سبع سنوات”. وفي طريق العودة وحين هممنا بالمغادرة اتجهنا إلى أحد الأزقة المتفرعة من باب مكة لنجد سحبا من الدخان تغطي المكان، فلا مكان هناك لتمييز الرائحة؛ إذ الكل يبيع العود والجميع يزعم أن ما يبيعه هو الأجود. أحد الزبائن تشاجر مع بائع بخور حين نعته بالغشاش، فالتقطنا طرف الحديث معه لنعرف سبب المشكلة، فقال: “هذا يبيع خشبا مدهونا بالعطر، وأنا صاحب خبرة في هذا المجال، ودائما أشتري البخور وأعرف أنواعها”. فقاطعه البائع معترضا: “أنا لا أغش، وهذا شهر فضيل لا غش فيه”. فسأله المشتري: وفي غير رمضان هل يجوز الغش؟ وتركناهما دون أن يصلا إلى حل.