يتطلب الفعل الثقافي مجهودا أكبر من قراءة الأوراق وإلقاء المحاضرات، وقد تكون تلك مسألة مطلوبة في السياق النظري الذي يؤسس لفكر يطور ذلك الفعل، ولكن أن يصيبه الجمود دون ترجمة حقيقية ومؤثرة وفاعلة في المشهد الثقافي والفكري، فجميع المنابر والفعاليات تتحول إلى احتفاليات لا تضيف جديدا أو تخطو بالسلوك الثقافي، الذي يأتي تاليا لمفهوم الفعل، خطوة إلى الأمام. فكرة الملتقيات الثقافية المتسلسلة للمثقفين السعوديين جيدة من حيث المبدأ، ولكن ما الذي يمكن أن تضيفه على الصعيد الفكري والاجتماعي، ينبغي أولا أن نتنزل بالأسئلة المعلقة على مشانق الاستفهام لنتمكن من إجابتها في سياقات موضوعية تتناغم مع الواقع، فالمثقف نفسه كمصطلح لا يزال بعيدا عن أي فهم إجرائي يؤطر دوره المحوري في العملية الثقافية وتحقيق مقاربة مرنة مع المجتمع تبتعد به عن فكرة الأبراج العاجية التي يبقي نفسه فيها. قد لا يكون بالضرورة أن يستغرق زمن في تحديد مفهوم المثقف، ولكن الأبعاد الفكرية لهذا المثقف هي النتاج الضروري لماهية دوره الاجتماعي، فعندما يعتمد المثقف خطابا فكريا وثقافيا عالي الإيقاع فإنه يخرج المتلقي، وهو المواطن، من الإطار الدلالي الذي يجمع الطرفين ويباعد المسافة بينهما، وذلك يفقد المثقف خاصية التفاعل المطلوبة لأي منجز يدركه أو يحققه، وإلا أصبح يدور في حلقة مفرغة. الملتقى الثاني للمثقفين السعوديين الذي نظمته وزارة الثقافة والإعلام في الرابع من صفر الجاري برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين وافتتحه وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة في مركز الملك فهد الثقافي الملتقى، كان من الضروري أن ينظر في الواقع الثقافي دون القفز على المراحل، بالنظر في ماهية الخطاب الثقافي برؤية أكثر عمقا، لأن الحال الثقافي الراهن يعزز فكرة دوران الفعل الثقافي حول نفسه دون أن يكون مؤثرا اجتماعيا. البنية الثقافية الحالية بحاجة إلى مزيد من الترميم، بداية بالمثقف نفسه وتحوله إلى عضو فاعل فكريا يواكب تطورات المرحلة التنموية، لأن الفكر التنموي يقوده أيضا المثقفون حينما يعالجون قضايا التنمية بمنظور اجتماعي يفتح الأفق مع الخبراء، وحين يصل المثقف إلى تلك المرحلة التنموية فإنه ولا شك يكون فاعلا وواقعيا، ويقدم نفسه بصورة منجزة ومتكاملة ومسؤولة وشغوفة بالتطور، وينبغي أن يخرج المثقف من بطن الكتب إلى فضاء الواقع وترجمته إلى تلك الكتب التي تحكي وتعبر عن الحاضر والمستقبل بأي صياغة إبداعية ممكنة، أما الحديث عن أفكار نيتشة وديكارت وغيرهما، فذلك أصبح من الماضي واستهلاك فكري غير ضروري وليس مجديا. على المثقفين أن ينتجوا فكرا تتناقله الأجيال، وتطوير خطابهم بما يجعلهم أكثر قدرة على تلقيهم دون فجوات دلالية، ولعل توصيات الملتقى مع التقدير لصياغتها بصورة متفائلة إلا أنها لا تخرج عن الإطار النظري، أو ذلك الذي يمكن أن تبتلعه البيروقراطية، ومن ذلك: دراسة في مقترح استقلال قطاع الثقافة في وزارة مستقلة وإعادة هيكلته بما ينسجم ومتطلبات التنمية الثقافية ومجتمع المعرفة. النظر في فكرة إنشاء مجلس أعلى للثقافة تمثل فيه جميع الجهات المعنية بالتراث والثقافة وعضوية عدد من أبرز المفكرين والمثقفين والأدباء والفنانين. وضع برنامج طموح لتعزيز الثقافة الوطنية والتأكيد على أواصر الوحدة واقتراح الآليات المناسبة لذلك. إقرار استراتيجية للثقافة قادرة على النهوض الثقافي بالمملكة وتوفير التمويل الحكومي اللازم. إنشاء صندوق وطني للثقافة تموله الدولة والقطاع الخاص بصفة دائمة لدعم الفعاليات والمبادرات ذات العلاقة بالشأن الثقافي. التأكيد على إنشاء أكاديمية الفنون الوارد ذكرها في الخطة الخمسية السادسة وما يتبعها من معاهد فنية للفنون المسرحية والسينما والتصوير الضوئي والفنون التشكيلية والأدائية والشعبية والنحت والتطريز والخط العربي والفنون الموسيقية والتشكيلية. إنشاء الهيئة العامة للكتاب والمكتبات العامة والاهتمام بالكوادر البشرية والفنية والاستفادة من التجارب العربية والعالمية. توثيق المأثورات الشعبية وفق ما أوصت به اتفاقية الإنتاج الثقافي غير المادي الدولية، للمحافظة على خصائص التراث الثقافي المتنوع للمملكة، وحمايته من الاندثار لتعزيز الهوية الوطنية. الاهتمام بإحياء أسواق العرب القديمة وإقامة مهرجانات ثقافية شاملة بها، وإعادة إنتاج الصناعات الشعبية. - العمل على تحقيق البنى التحتية اللازمة لعمل وتطور مختلف الفنون كالمتاحف وقاعات العرض والعرض المسرحي والسينمائي والتشكيلي وغيرها. - تأسيس جوائز تقديرية وتشجيعية تمنحها الدولة في مختلف مجالات الآداب والفنون. - الاهتمام بالثقافة الرقمية والصناعات الثقافية المبنية على اقتصاديات المعرفة وتوفير البنية الكاملة لها في كافة المراكز والفعاليات الثقافية. - الاهتمام بالنشر الورقي والإلكتروني في حقول الفنون والآداب والثقافة بإصدار مجلات دورية متخصصة وسلاسل من الكتب المعرفية للفئات المختلفة. ويتضح أن كثيرا من هذه التوصيات تأتي في سياق إنشائي عام، وتلك العمومية هي ما يجهض الفكرة ويجعلها بعيدة عن المتناول، ولكن يظل الرهان على عزيمة المؤسسة التنفيذية المعنية بالشأن الثقافي في بلورة التوصيات وترجمتها فعلا داعما للفعل الثقافي، وإلا سيأتي الملتقى الثالث والحال على ما هو عليه .