عندما يأتي الحج تأتي معه الحكايا والأماني والروحانية، والحياة مجسدة بلا زيف.. والحج منطلقه مكة ومنتهاه مكة.. تلك المدينة التي تنطق كل اللغات بطلاقة وتتمازج فيها العوالم المختلفة متوحدة في الإيمان. مكةالمدينة التي لا تنام أبدا وفي موسم الحج تبدو كالحلم.. كالأمنيات التي تمتلئ بها أفئدة شتى، فتمنح الزائر والمقيم روحانية معتقة بالطهر.. قدسية مكة دفعت الكثير ممن منعوا دخولها لاختلاف المعتقد أن يأخذوا الطرق الملتوية ليكتشفوا هذا السحر الخاص بالمسلم.. كان السؤال الملح الذي قاد الكثير من النصارى واليهود للعزم على اختراق عالمها فحملوا أرواحهم على أكفهم في مغامرة غريبة قيدتها كتب الرحالة.. قدسية مكة المحجوبة عن أعينهم كانت تنبت أسئلة محمومة أكثر.. ما القدسية؟ لماذا مكة موطن خاص للمسلم؟ وما الكعبة السوداء التي تمنحهم عند ذكرها حنينا وشوقا؟ الرحلة إلى مكة لا تكون إلا عندما يدعون هؤلاء النصارى أداء فريضة الحج متلبسين بالإسلام؛ لذا كان الحج الفرصة الأكبر لولوج عالم المسلم المقدس.. كان الجلال الذي يحيط الكعبة يأسرهم.. والحجر الأسود الممتلئ بقبلات الطائفين يحيرهم، والتلبية والدعاء والدموع الصامتة تحفر في أذهانهم صورة تعجز عن ترجمتها أقلامهم. كل متاعب الحج ورحلة الوصول لمعنى القداسة في مدينة تحفها حبال ويتدفق من تحتها ماء معظم رحلة فيها سحر الشرق الذي ورطهم بمزيد من أسئلة.. كان بيرتون أكثر الأسماء التي ارتبطت بمكة وشغفه اكتشافها فادعى الإسلام وتقمص شخصية هندية ولبس أردية العرب وروى عن مكة الكثير.. عندما زار المسجد الحرام.. كتب واصفا الكعبة قائلا: «هناك أخيرا تقبع، غاية حجي الطويل والمرهق وتحقق خططي وأماني لسنوات وسنوات لا وجود لآثار عملاقة غارقة في القدم كما في مصر، أو بقايا لجمال متسم بالبهاء والتناغم كما في اليونان وإيطاليا، أو الجمال الهمجي الفتان كما في عمارات الهند. ومع ذلك كان المنظر غريبا وفريدا يمكن القول بكل صدق إن بين العباد الذين ألصقوا قلوبهم النابضة بالحجر «الأسود» لم يشعر أحد منهم تلك اللحظة بتأثر أعمق مما شعر به الحاج القادم من الشمال الأقصى، أن شعورهم كان الشعور السامي بالحماسة الدينية أما شعوري أنا فكان شعورا بنشوة الفجر الباعث على الرضا». هل يا ترى مع وسائل الإعلام يظل شغف الاكتشاف لدى الآخر محموما؟ وحده الحج يهبك معاني لا يسلبها زمن ولا تفرط فيها ذاكرة. كل حج وبلاد الآمنين آمنة..